".. ليست هناك أنواع مختلفة من الدور بل شكل الدار واحد، قد يختلف اتساعا وضيقا تبعا لحاجة كل عائلة على حسب عدد أفرادها، أما العلو فهو واحد والشكل واحد، فليس هناك دار للغني ودار أخرى بشكل آخر للفقير، وهذا يدلنا دلالة صادقة على مدى المساواة التي كانت منتشرة بين السكان، وأول ما يستوقف نظرك في الدور هو الاكتفاء الذاتي في المواد أو سياسة الإمكانيات، فقد اختاروا مادة "تِمشَمْتْ" وهي موجودة، والحجر الصغير وهو موجود ولا يحتاج التقاطه من الجبال أو اقتلاعه عناءً، والجريد والأخشاب من النخيل، وأكثر الأثاث الذي يحتاج في الدار مبنيٌ اقتصادا في الخشب لأنه كان قليلا ونادرا جدا، فيصنعون أبواب الدور والحجرات بخشب النخيل، ولذلك يضيقون الأبواب ويستغنون عنها في المطبخ والمرحاض وما لا ضرورة إليه، ويبنون مرتفعات من الأرض لوضع أمتعتهم والدكاكين للنوم والصلاة.
وكل الدور القديمة التي رأينا والتي لا تزال بقايا منها موجودة تنطق وتعبر تعبيرا صادقا عن مدى ما استعمل الأولون من ذكاء في البناء على بساطته منها مثلا هذه المادة التي يبنون بها فهي لا تتأثر بالحرارة القوية ولا بالبرودة فنجد الدور التي بُنيت بها إلى اليوم باردة في الصيف دافئة في الشتاء، وهو ما يسمى اليوم تكييف الهواء فهذه الدور لا تحتاج إلى تسخين أو تبريد، ثم إن هذه المادة نستطيع أن نبني بها جدرانا صحيحة بحجر صغير وهو موجود بدون عناء، ثم إن تصغير الأبواب يستجيب إلى شيئين أولا: التقليل من حرارة الشمس في الصيف ومن الضوء تبعا لذلك والتخفيف من حدة البرد، ثم ثانياً: الاقتصاد في الخشب الذي كان نادرا أو غالياً.
... ولننظر نكتة أخرى في المساجد القديمة فنرى بالرغم من تقديس الميزابين للمساجد فأبوابها لا تختلف في طولها وعرضها عن أبواب الدور وما ذلك إلا لأنها جعلت لدخول وخروج الرجال لا غير، وإذا كان المسجد كبيرا واحتيج إلى أن يجعل له باب ثاني فإنه يفتح، ولكنه لا يكون عاليا بل عاديا فلا حاجة لأي ارتفاع، فأطول الرجال قامة لا يزيد عن المترين وكل ما زاد عن قدر الحاجة فهو إسراف وتضييع، وقل مثل ذلك في سقوف المساجد فهي لا ترتفع أكثر من خمسة أذرع وذلك أدعى لطقسيتها (limatisationC) ولتقليل النفقات، ثم ننظر إلى الكُوات التي توجد في كل المساجد وحتى في بعض سواريها، وكذا الرفوف، فكلها ذات منفعة لعمار المساجد كوضع النوى أو الأحذية أو تعليق الملابس الخارجية، كل هذه وظائف نستغني فيها عن الالتجاء لجلب الأثاث من الخارج أو صنعه من الخشب الذي كان لا يزال نادرا، وأقل ما يقال في استغلال الأماكن الممكنة للرفوف نقول إنه اقتصاد في المواد التي يبنون بها، وفي عُرف الاقتصاد لا تحتقر القليل، فالبحار تتجمع من القطرات!!
وما قلناه في المساجد نقوله في الدور فهناك كثير من الملاحظات تدلنا دلالة صادقة على التفكير العميق الهادف الذي صحبهم في البناء وكذلك خضوع البناءات لأحد قواعد الهندسة الهيكلية للبناء (Le mécanisme)
فأنت مثلا تراهم يجعلون الأقواس من الجهة الجوفية والجهة الشرقية والقوس الأخير الذي يتصل بالسور لا يجعلون فيه قوسا بل خشبة طويلة وهذه دلالة على أنم يعلمون أن القوس قد يدفع الحائط الخارجي كما يقرره الفنانون الآن (النارق).
إنها أوّلاً تنفع لوضع بعض الأدوات الخطيرة كالمقص والموس والكبريت مما يجب إخفاؤه عن الصبيان، ثم هذا يدلنا على علمهم بالهندسة، فهم متأكدون أن الثقل الذي تحمله الأروقة أو الأقواس ينصب فوق السواري، وبالتالي فإن فتح هذه الكوى بين الأقواس لا يؤثر في صحة البناء ولا يضعفه.
ففي الكوة العليا (أعلى العرصة) تحفظ المواد الخطرة كالموسى والكبريت، وفي الكوة الوسطى والسفلى نوى التمر .. وفي هذا الدليل على تقدير نعم الله تعالى. أما في المساجد فالكوات التي تنتشر في جدران المساجد والمصليات مهيأة لتحفظ المصاحف وترفعها بعيدا عن الأرض."
-بتصرف-
المصدر: الشيخ القرادي؛ رسالة في بعض أعراف وعادات وادي مزاب ص 38-40-41.
شاركنا بتعليقك