إخواني الأعزاء، أبنائي الشباب، أسرة "الإصلاح" الصامدة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فحين طلب مني إخواني المشرفون على إقامة هذا المهرجان الثقافي الحادي عشر، الذي يقيمه نادي "الإصلاح" بعاصمة الوادي، وبمناسبة الذكرى الستين لتأسيس جمعية الإصلاح، وتحت شعار "العيد الألفي لتأسيس حلقة العزابة" اقترحوا علي موضوعا تاريخيا، ولبيت هذا الطلب. وقبل أن أبدأ تحرير هذا الحديث، تنازعني موضوعات شتى أو نواحي مختلفة من تاريخنا الطويل الحافل، فهو عريق الجذور، لا في تاريخ الجزائر فحسب، ولكن في المغرب الإسلامي الماجد، فاخترت عنوانا لهذا الحديث الذي لا أسميه محاضرة، لأن معلوماتي فيه محدودة ولكنه على كل حال سيفيد أبناءنا المهتمين بحاضرهم ومستقبلهم، الذي يريدون بناءه على ماضيهم، فلا حاضر لمن لا ماضي له، ولا مستقبل من لا حاضر له، والعنوان المختار هو: "جهاد الإباضية الميزابيين في المغرب الإسلامي"
والأسباب التي دعتني إلى اعتبار هذا الموضوع في هذا الظرف بالذات كثيرة، منها ما لمسته في أبناءنا الشباب من إحساس بالمرارة إثر حملات التشكيك التي يبثها المغرضون وأذاعها المزيفون حول جهادنا إبان ثورة التحرير، ومحاولة تشكيكهم وتعقيدهم، ومنها ما وجدته في أبنائنا وحتى بعض المثقفين من جهل بتاريخ جهادنا، سيما منذ دخول الاستعمار إلى يوم الاستقلال، إلى كثير من الأسباب، لا مجال للتطويل في ذكرها.
لذلك اخترت الحديث إليكم في هذا الموضوع، ولست أكتب للرد على هؤلاء الناس لأني على يقين أنهم مرضى ولن يشفوا من هذا المرض.
إني أتوجه أولا لأبنائنا، ليعلموا ما يجب أن يعلموه من بطولات وأمجاد أجدادنا وآباءنا، وليتجاوزوا هذه السفاسف، التي يحاول هؤلاء أن يجروهم إليها فالشاعر الحكيم يقول: وما كل برق لاح لي يستفزني.
وأحنف بن قيس التميمي ترك لنا حكمة خالدة حين قال له أحد الجهال: "لئن قلت كلمة لتسمعن عشرا، فقال له: والله لئن قلت عشرا لما سمعت كلمة" كما أن أحد الظرفاء قال يوما: امرأته طالق ثلاث وثلاثين مرة، فقال له أحد السامعين، يا هذا إنها تحرم بالثلاث، فما بال الثلاثين فقال: صدقة على من لم يجد امرأة يطلقها. فلما سألوا عنه وجدوه عازبا غير متزوج.
ولعل أذهانكم النيرة تدرك ماذا سقت هذه النكتة، والعاقل الحصين الرأي لا يدع لخصمه فرصة اختيار الميدان ولا المكان ولا الزمان إذا أراد منازلته، فاختيار الميدان هو نصف الانتصار، وكل من نزل ميدانا اختاره له خصمه، فقد خسر نصف المعركة لا محالة. ولأن يسكت العاقل حين يسكت وهو مختار خير من أن يتكلم حين يتكلم وهو غير مختار.
ثم إني أتوجه هذا الحديث لكل منصف، يريد أن يعرف تاريخنا وأن يطلع على حقيقته بكل موضوعية وتجرد.
أبناءنا الشباب:
إننا نسوق لكم هذا الحديث للتأسي والاقتداء لا للاجترار والاكتفاء، جريا على قول الشاعر:
لسنا وإن أحسابنا كرمت يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فالمطلوب منكم، بعد دراسات معمقة بجهاد آبائكم وأجدادكم في تاريخ هذا المغرب الإسلامي، سيما في عهد الاستعمار العسكري البغيض الذي عانى منه آباؤنا، ونال المصلحين منهم أكبر قسط، كما أن جهادهم كان أروع وأقوى وأشمل، والحمد لله.
يجب أن تعتبروا أنفسكم مواطنين كاملي الحقوق في كل شبر من أرض الجزائر بل في كل بلاد المغرب الإسلامي. فلكم من تاريخ جهاد أسلافكم ما يقوم حجة ودليلا على هذا. وأعيذكم بالله أن تستمعوا لنعيق دعاة الانحسار والانكماش والتقوقع، وإياكم أن تزلقوا في هذه الحمأة تأثرا ما قد تصادفونه من العراقيل في مسيرتكم الطموحة، فهي من طبيعة الحياة. أما التقوقع والانكماش فهو بالنسبة إليكم انتحار وتنكر.
1. الميزابيون في العهد التركي:
كان العهد التركي عصرا ذهبيا لتاريخ الجزائر، فقد أملت في الدولة الجزائرية أو المملكة الجزائرية أكثر من مائتي معاهدة على فرنسا وبريطانيا وهولندا والبرتغال وحتى على الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استنجدت بهم فرنسا خوفا من غارات الإنجليز على سواحلهم الشمالية، ونزلت البحرية الجزائرية في ميناء "براست" الفرنسي ليحاربوا ويردوا غاراتهم. ولعل المؤرخين الذين يتحاملون على الاحتلال التركي للجزائر، متأثرون بالمؤلفين المتشبعين بروح القومية العربية وعدائهم لتركيا في الشرق. وقد أنصف الأستاذ أحمد توفيق المدني، والأستاذ مولود قاسم هذا العهد من تاريخ الجزائر بما يستحقه، ونحن نشاركهم هذا الرأي، وحتى المصادر القليلة في العربية أغلبها من اللغات الأوروبية سيما الفرنسية.
أما الميزابيون فقد كانت لهم في العهد التركي مكانة بارزة ومواقف مشهودة ومواقع مشهورة، نلخصها فيما يلي، والموضوع واسع مترامي الأطراف يحتاج إلى دراسة جامعية، شريطة أن يكون الباحث أو الدارس متضلعا في اللغات الأجنبية، فالمصادر الأجنبية متوفرة في الموضوع أكثر من المصادر العربية.
1. ارتبط الميزابيون بالدولة التركية معاهدة مبرمة سنة 1510م، وذلك لحماية تجارتهم وممتلكاتهم في مختلف أنحاء الجزائر الشمالية، وقوافلهم التجارية التي كانت تجوب مختلف أنحاء الجزائر بل حتى تونس والمغرب، فقد وردت في وثيقة 1853 فقرات تدل على ذلك.
ونستطيع أن نقول بكل فخر إن هذا الارتباط بالدولة التركية بالجزائر يعتبر أول وثيقة سياسية ربطت صحراء الجزائر بالجزائر عن رضى وطواعية قبل وصول الأتراك إلى بسكرة وتقرت، وقبل وصول صالح باي في الأغواط، فقد وصلها في 1775.
2. موقفهم البطولي ضد الإسبان في معركة حسين داي سنة 1518، وقد استشهد كثير منهم في هذه المعركة، التي سميت معركة "كدية الصابون"، ولا تزال المقبرة التي دفنوا بها موجودة في حي "ليفيي" على ما قيل "حي المقرية" حاليا قرب حي حسين داي بالعاصمة.
3. موقفهم في نسف دار البارود، وقتل جميع ضباط الحملة الإسبانية، وقد استشهد في هذه الموقعة ثلاثون من الفدائيين، وهي موقعة "برج بوليلة" أو "قصر مولاي حسن" سنة 1541م، وتوجد في مخطط مدينة الجزائر في العهد الاستعماري عبارة Poudriere Mozabite. وقد أهدت لهم الدولة التركية بعد هذه الموقعة كثيرا من الامتيازات في بعض الحرف كالإشراف على المسلخ وعددا من الحمامات لا تزال إلى الآن ملكا للميزابيين. وقعت هذه الموقعة سنة 1541م، كما أحدثت وظيفة أمين الميزابين، يحضر المجالس الاستشارية كعضو كامل العضوية.
4. تلبيتهم لنداء الدولة التركية حين استنجدت بسكان الصحراء، عند نزول الفرنسيين في سيدي فرج سنة 1830، ولم يستحب غيرهم من سكان الصحراء، وبعثوا أربعة آلاف رجل، دافعوا في عاصمة الجزائر، وقد دفن بعضهم في "اسطوالي"، واستشهد معظمهم بالبليدة ومجدوفة، ومقبرتهم معروفة اليوم بالبليدة في طريق الشريعة.
وفي هذه النقطة قد يسال أحد الحاضرين: لماذا بعث الميزابيون أربعة آلاف رجل؟ وهو بالنسبة لعدد السكان في ميزاب يومئذ عدد كبير جدا، ربما كانت مثل معظم القوى الحية من الشباب، ولماذا لم يفعلوا مثل الآخرين فيحتفظوا برجالهم إلى وصول الجيش في الصحراء؟ وهو سؤال وجيه. وبعد التأمل نستطيع أن نجيب بما يلي، وهذا على حسب نظري:
- إنهم كانوا مرتبطين مع الأتراك معاهدة ولاء دفاع، ولم يسبق أن استنجد الأتراك بسكان الصحراء قبل ذلك، وقدروا هذه الاستغاثة وبعثوا أكثر عدد ممكن.
- إنهم كانوا ينطلقون في جهادهم من منطلق إسلامي بحت، يجاهدون لإعلاء كلمة الله، ولا يجاهدون من أجل التراب، فارتباط الإنسان بعقيدته أقوى من ارتباطه بأرضه.
- ربما لم يكونوا يتوقعون أن يمتد الاحتلال الفرنسي إلى الصحراء، فليس فيها ما يغريهم أو يسيل لعابهم، وقد سبق أن دامت دولة الأتراك ثلاثة قرون، ولم تدخل إلى الصحراء إلا في أواخر حكمها.
- ثم أنهم سبق أن هزموا الجيش الإسباني مرتين، فلم لا تكون هذه من تلك. والموقف الخالد الذي سجلوه في العهد التركي دفاعهم عن حاضرة قسنطينة، التي صمدت لجيوش الاحتلال سبع سنوات، وزادوا أياما بعد أن استلمت حامية قسنطينة، وتحيز أحمد باي إلى الأوراس عند أخواله آل بن تانة.
ويقال إنهم اشترطوا بعد إيقاف إطلاق النار أن لا يسلموا سلاحهم، وأن لا يدخل الجيش الفرنسي القسم الذي كانوا يدافعون عنه لنهب أو سلب أو انتهاك للمحرمات، مما جعل عائلات قسنطينة والبيوتات الكبيرة فيها يبعثون بكل نسائهم إلى تلك الأحياء حفاظا على سلامة أعراضهن، ويقال تعليقا على ذلك: إن إحدى عقيلات ابن لفقون هي التي حبست مقبرة الميزابيين بقسنطينة على الميزابيين اعترافا بجميلهم في هذا الميدان، وإن كان هناك من يقولون إن هذه المقبرة حبست على الميزابيين بعد أن طردهم صالح باي من حاضرة قسنطينة، وموقف الولي الصالح بوحجر صاحب زاوية الخروب. فقد التجأوا إلى هذه الزاوية واستقبلهم مقدمها المذكور أحسن استقبال، وطلب منهم أن يقيموا حتى يخاطب صالح باي في الشأن. فركب فرسه، ودخل قسنطينة وجمع أعيانها، واجتمعوا بصالح باي وطلبوا منه إرجاع الميزابين إلى ممتلكاتهم وحركاتهم الاقتصادية، فقبل التراجع عن قراره بعد أن هددوه، وأهدى لهم الشيخ ابن لفقون هذه المقبرة بعد رجوعهم وعودهم لممتلكاتهم.
ولو كنا نملك وثيقة التحبيس هذه لرجحنا بين الروايتين السابقتين، فالتاريخ وحده يكفي للترجيح، لأن جميع من سبقونا متفقون على أن مقبرة قسنطينة التي وقعت فيها خصومة بين الميزابيين وبلدية قسنطينة 1927 و1937 هي وقف من عائلة إبن لفقون للميزابيين الإباضية:
فلسنا نقصد هذه المسامرة الاجترار، بقدر ما نقصد الاعتبار بما بذله آباؤنا على قلة إمكاناتهم، وتقصيرنا مع توفر إمكانياتنا. والمثل الميزابي يقول " وَازْدَجِينْ الوَالْدِينَس إلْعَقْبَتْ أَتْيَالِي"
وأخيرا أرجو من أبنائنا الجامعيين أن يستعدوا للإسهام في ميدان بعث التراث في إطار "جمعية التراث" كما أرجو من شبابنا العامل الجاد أن يبذل التضحيات المادية الموازية لجهود الباحثين والكتاب والمؤلفين والدارسين، فليست التضحية وقفا على العلماء والمثقفين وحدهم، بل واجب شبابنا العامل أن يسهم بأكبر جهد مادي في هذا الميدان، ليوفر للعالم ما يشجعه على المضي في أداء رسالته حتى تلتقي جهود الجميع على بعث هذا التراث الخالد، إذ قال الشاعر:
إذا الحمل الثقيل تعاونته أكف القوم هان على الرقاب
وبهذه المناسبة يطيب لي ونحن في ليلة من ليالي شهور الرحمة أن أترحم على جميع الذين سنذكر عينات من جهادهم وأخص من بينهم الشيخ أبا إسحاق أطفيش والشيخ الباروني والشيخ أبو اليقظان والشيخ صالح بن يحي آل الشيخ. فكل واحد أبلى البلاء الحسن في سبيل إعلاء كلمة الله ورفع سمعة الميزابيين في الميادين العالمية.
وقد تعرضوا لمحن لا تقوى على تحملها إلا النفوس المؤمنة المخلصة التي جعلت غايتها الجنة ورضوان الله. رحمهم الله رحمة واسعة وأسكنهم فردوس الجنان ومتعهم بالفوز والرضوان، ولكل واحد قصة من واجبي أن أرويها لأبناءنا ليأخذوا منها دروسا وعبرا، وستكون لهم حافزا لما يطلبه منهم مستقبلهم المشرف في سبيل الاستمرار على درب أولئك الأبطال المغاوير ولكن بعد نهاية المحاضرة، أو في فرصة أخرى، فقد لا يسمح وقت المحاضرة بكل ذلك.
2. الميزابيون في المقاومة الشعبية:
أرى من واجبي قبل أن أبدا في هذه النقطة أن أوضح ملاحظة جديرة بالاعتبار، وهي أننا إذا قلنا "الميزابيين" لا نعني بالكلمة كل الميزابيين. ففي المواقف السابقة، في العهد التركي، كانت الأعمال والمواقف تصدر عن القيادة الجماعية لسكان ميزاب، كما رأينا ذلك في رسالة العزابة لداي الجزائر.
أما في هذا الفصل، وهو فصل المقاومة، فمن أمانة التاريخ أن نذكر مشاركتهم في المقاومة في مختلف نواحي الجزائر ولكننا لا نعني بكلمة الميزابين كل الميزابين أو أغلب الميزابين، فنحن إلى حد الآن لا تملك مصادر تثبت اتفاقهم كلهم على دعم المقاومة وإن كانوا في مجموعهم مندفعين من منطلقهم الديني في معركة الكفر والإيمان، ولذلك نجدهم شاركوا أفرادا وجماعات في أغلب المقاومات والانتفاضات وابتداء من الأمير عبد القادر بطل المقاومة الشعبية إلى يوم استقلال الجزائر.
1. فمع الأمير عبد القادر، كانت جماعة معتبرة منهم أمين خزانته السيد أميني الحاج، من بني يسجن، كان في قصر الشلالة، ثم كاتبه اليد الحاج باي أحمد من مليكة، حضر معه في "معاهدة التافنة".
2. مشاركتهم في ثورة بن زعمون، بنواحي البليدة.
3. مشاركتهم في ثورة المقراني، والشيخ الحداد، وقد استشهد أحد الأبطال، يسمى بولنعاش باحمد، من غرداية أمام داره بمجانة، قرب برج بوعريريج.
4. وفي ثورة الشيخ بوعمامة، وأولاد سيدي الشيخ كانت إعانتهم كبيرة سيما في العتاد والسلاح، وهذا التأييد كان من أسباب استيلاء الفرنسيين على ميزاب في سنة 1882. ورسالة الوالي العام "جول تيرمان" تذكر ذلك، وكذلك رسالة الكومندان "ديبري" إلى مسؤوليه، حين يذكر الأسباب التي دعته إلى الزحف على ميزاب، وتركيز حمية هناك، يقول: "إن ميزاب يسمى عند سكان الصحراء خزان البارود " le grenier de la poudre" لأن قوافل الميزابيين كانت تجلب ملح البارود والكبريت من الجنوب التونسي، فيصنعونه بارودا ويمدون به جميع جيوب حرب المقاومة في الصحراء، فهم قد عقدوا معنا معاهدة في سنة 1853م فهم يمسكوننا بيد، ويمدون المقاومة بيد أخرى ولذلك قررنا الزحف على غرداية لنتمكن من مراقبتهم أو ما في معنى ذلك"
ولا نريد أن نستمر في سرد جميع المشاركات، لكيلا نطيل عليكم.
3. الميزابيين في الكفاح السياسي:
كانت حركة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، أول حركة سياسية منظمة، قدمت مطالب الجزائريين، وعبرت عن آمالهم، وعرضت قضيه على المنابر، وعلى صفحات الجرائد، على بعض التجمعات التي كان يعقدها الأمير في فرنسا ومطالبه وإن كانت بسيطة عند استعراضها إلا أنها كانت بالنسبة لتلك الظروف خطوات جريئة، وبداية حسنة، وأصعب الأشياء مبادئها، وكانت مقدمة لجميع الحركات السياسية التي نشأت بعد ذلك. وكان للميزابيين مع الأمير خالد مساندة فعالة لعلاقاته الوثيقة بهم، ويكفي أن نسجل أن وكيله على عائلته وأولاده عند غيابه في الحرب العالمية الأولى هو السيد خير الناس بكير بن سليمان، في مدينة ميلة.
وكان السيد إبراهيم المعراض، من أكبر أنصاره، كما كان كثير من جماعة الجزائر، وقد ترشح في قائمته الانتخابية السيد باعامر موسی بن يحي بن قاسم في بلدية الجزائر.
4. الميزابيون والحركات الإصلاحية والسياسية:
شارك الميزابيون مشاركة فعالة في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م، أبرزهم الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر، رحمه الله، الذي كان عضوا في إدارتها الأولى، وكان لهم فضل ترشيح وانتخاب الإمام عبد الحميد بن باديس، رئيسا لجمعية العلماء. كما كان الشيخ أبو اليقظان، في الدورة الثانية عضوا في الإدارة ونائبا لأمين المال، حتى غاية الحرب العالمية الثانية، كما كان الشيخ بكلي عبد الرحمان عضوا في لجنة صياغة القانون الأساسي لجمعية العلماء، إلى مئات المشاركين والمؤيدين ماديا ومعنويا.
وقد فتحت الجلسة التأسيسية لهذه الجمعية بتجويد آيات بينات من الذكر الحكيم من طرف الشيخ محمد بن الحاج إبراهيم قرقر البرياني المدعو الشيخ الطرابلسي، وكان من أعضائها.
ومن بواكير الأعمال الإصلاحية التي قام بها إخوانا في ميلان الإصلاح بالجزائر، تأسيس أول مدرسة منظمة عصرية في مدينة تبسة، بإشراف الشيخ عباس بن حمانة والشيخ الحاج بكير العنق، والسيد الحاج بكير المرموري، وثلة من جماعة الميزابيين بتبسة.
وكانت أول مدرسة فتحت صدرها لاستقبال الشيخ عبد الحميد بن باديس في عمالة وهران حين كانت الطرقية مسيطرة على القسم الأكبر من عمالة وهران في مدرسة الإصلاح بغليزان، وكان يشرف عليها حينئذ الشيخ بابا عمي الحاج أحمد بن الحاج موسى رحمه الله، فكان الشيخ عبد الحميد يزورها كل سنة عند مروره إلى تلمسان، وهذا فضلا عن إنشائهم للمدارس الإصلاحية في ميزاب، وفي كامل القطر الجزائري أينما وجدوا، وتنظيمهم للبعثات العلمية إلى تونس، مما أصبح نموذجا حيا للبعثات العلمية التي جاءت من الجزائر بعدهم.
5. في تأييد المجاهدين في ليبيا:
مما لا يخفى على أبناءنا أن الشيخ سليمان باشا الباروني تخرج من معهد قطب الأئمة الشيخ الحاج أحمد أطفيش، وتدرب في الميادين العسكرية، حين كانت طرابلس تحت الحكم العثماني، وقد كان عضوا بارزا ونائبا عن ليبيا في مجلس المبعوثان وهو مجلس شوري، يشمل نائبين عن كل قطر من الأقطار الإسلامية التي كانت تابعة للخلافة العثمانية. وحين هاجمت إيطاليا القطر الليبي، كون الشيخ الباروني أول جمهورية في طرابلس، واستمر في المقاومة حتى آخر رمق. وكانت إعانات الميزابيين في إمداد المقاومة بالمال والمؤونة فعال، وهذا نظرا لوجودهم في تونس، ولعلاقتهم بالشيخ الباروني. وقد كان زملاؤه يومئذ هم المشرفون على مختلف قرى ميزاب. وقد اجتمعت شخصيا بأحد جنوده الجزائريين الذين شاركوه في الحرب والمقاومة، ويسمى السيد بودرعو، اجتمعت به في قسنطينة سنة 1940م، فحدثني عن الإعانة التي كانت تصل المجاهدين في طرابلس من إخوانهم من الجزائريين، ولا سيما من الميزابيين في المناطق الشرقية، كما حدثني أن عددا كبيرا من الجزائريين كانوا مجاهدين مع الشيخ سليمان الباروني في مقاومة الاستعمار الإيطالي لأنه كان جهادا في سبيل الله.
6. إمدادهم لحرب الريف:
حدثي الشيخ حسن البغدادي في إحدى زياراته للعطف، أن الميزابيين كانوا يبعثون بإعاناتهم المادية للأمير عبد الكريم الخطابي، زعيم حركة المقاومة في الريف ضد الإسبان والفرنسيين. وحين سألته عن دوره هو في هذه المقاومة فقال: "إنه كان كاتبا سريا للأمير عبد الكريم"، وكان الشيخ أبو اليقظان، يكتب في الجرائد التونسية، يحرض المسلمين على الإعانات للريف.
7. في الحزب الدستوري في تونس:
كان للميزابين دور بارز في صفوف الحزب الدستوري بتونس. ومن المعلوم أن مؤسسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، هو جزائري الأصل، وقد ساند كثير من الجزائيين هذه الحركة واحتضنوها من أول يوم، من أمثال الشيخ أحمد توفيق المدني، والشيخ عبد الرحمان يعلاوي، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش، والشيخ صالح بن يحي آل الشيخ عم الشاعر مفدي زكرياء والشيخ أبو اليقظان والشيخ بكلي عبد الرحمان.
فقد كان بعضهم أركانا لهذه الحركة المباركة، ونخص بالذكر الشيخ أبو إسحاق اطفيش، الذي اعتبرته فرنسا روح الحركة. ولذلك حين قررت القضاء على هذا الحرب، بدأت بالشيخ أبي إسحاق فنفته إلى مصر. وبما أن الشيخ صالح بن يحي كان غنيا وكان عضوا في اللجنة التنفيذية للحزب، فقد كان ملجأ للحزب ومعتمدا في كل ما يحتاج إليه من المال.
ونحيلكم إلى ما كتبه السيد محمد الصالح الجابري والأستاذ أحمد توفيق المدني، ويذكر كلاهما أن الشيخ صالح سافر إلى الجزائر وجمع عدد ثلاثين ألف فرنك في رواية، وفي رواية أخرى ثمانين ألف فرنك. ومهما يكن من أمر، فإن العامل البسيط في سنة 1920، يتقاضى فرنكا ونصف في اليوم. ولكم أن تقدروا هذا العدد بسعر اليوم. وبهذه الأموال كون الحزب وفدا ذهب إلى فرنسا وسويسرا. للتعريف بقضية تونس، وشرح مطالب الحزب للدوائر الرسمية الفرنسية ولدى عصبة الأمم، الذي كان مقرها حينئذ بجنيف، كما طبعوا كتاب "تونس الشهيدة" وقد يتساءل أبناؤنا ولهم الحق، لماذا يجمعون هذه الأموال للريف، ولطرابلس، ولتونس وهم تحت حكم عسكري جبار؟
يقول السيد محمد صالح الجابري في كتابه "النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين في تونس" ص 271:
"إن الاستعمار الذي كان يتابع هذه الحركات، كما قلنا، بحذر وتربص، لم تنطوي عليه كل مظاهر التمويه هذه، ولا استنام الحذر الشديد الذي لمسه في تصرفات هؤلاء، وما كان منه في الأخير إلا أن عثر على الحجج الملائمة التي أقنعته بموجب تسديد ضربة قوية لكل العناصر الجزائرية التي انضوت تحت لواء الحزب الدستوري التونسي، والعمل على إبعادها وتشريدها شرقا وغربا الواحد تلو الآخر، والعنصر بعد العنصر، حتى لا يثير هذا الإجراء ما يمكن أن يثيره من الحساسيات الخاصة، ولا يفصح عن القصد الحقيقي، الهادف إلى القضاء على وحدة أبناء القطرين الشقيقين، وضرب كل اتجاه نحو توحيد وتكيل صفوفهما.
وتحقيقا لخطة انتهاج سياسة أكثر صرامة تجاه نشاط الجزائريين خاصة شرعت السلطات في إعداد المرحلة الأولى من هذا المخطط، وتتمثل في ضرب رؤوس الحركة الميزابية بالذات، التي كانت متعاطفة كل التعاطف مع اتجاه الحزب، وكان بعض أفرادها يشكلون أركانا أساسية في هذه الحركة عملا وقولا.
وكي تقوم باستعراض عضلاها القوية، وتوحي للآخرين بقدرتها على العقاب والانتقام بادرت إلى رأس الحركة الميزابية، وعمدة الطلبة، وأحد الأقطاب السياسيين الذين اشتهروا بالعناد والتحريض على العصيان، والتباهي بالانتماء للحزب، وهو الشيخ إبراهيم أطفيش، وأصدرت قرارا بأبعاده عن تونس بتهمة التواطؤ مع الحزب الدستوري التونسي، وحشر أنفه في الأمور التونسية البحتة وهو الجزائري الجنسية.
لقد تراءى للسلطة الاستعمارية أن ضرب الزعيم الأوفر شعبية بين أبناء جلدته من شأنه أن يردع الأخرين، ويعطيهم المثل بأن فرنسا قادرة على الحسم، ومستعدة للذود عن نفوذها وسلطتها بكل الوسائل. وهكذا أصدر ديوان المحافظة قرارا، بأمر من المقيم العام موجها إلى أبي إسحاق مضمونه: "أن الحكومة الفرنسية تدعوك للكف عن كل حركة عدائية، واختر لنفسك أي بلد شئت خارج حدود هذا التراب".
ويتعرض السيد بوراس عبد الله الكاملي، في كتابه عن أبي إسحاق، إلى الظروف التي أبعد فيها أبو إسحاق أطفيش، وأسباب هذا الإبعاد، وبالأحرى السبب الذي كانت تنتظر السلطة توفره للقيام بخطوتها الأولى للحد من انتشار المعارضة، وتقليل نفوذ الزعامات الجزائرية على الخصوص. فيذكر هذا الصدد تصرف الشيخ أطفيش تجاه المقيم العام الفرنسي "لوسيان سان"، وإظهار عدم الاحترام له علنا، تحقيرا له في أعين الناس، الأمر الذي أثار حنق هذا المقيم العام. فوجد في ذلك الفرصة السانحة للانتقام من الشيخ أطفيش وتصرفاته وتقرير مبدأ إقصائه، وشفاء غليل السلطات.
يصف الكاملي شدة حنق الشيخ على الاستعمار الفرنسي، فيقول: "ومن شدة حنقه على غلاة الاستعمار ما أظهره أمام المقيم العام الفرنسي "لوسيان سان". وذلك أن المقيم أصدر قرارا يلغي معمل الشاشية التونسية، فقدم التونسيون وبعض أفراد الحزب الحر الدستوري التونسي، الذي كان يتزعمه يومئذ عبد العزيز الثعالبي، بذلك شكوى، مضمونها، أن إلغاء مصنع الشاشية يهدد الشعب التونسي بالقضاء على الشاشية، إنها من الصناعة المحلية، وبتشريد نحو أربعة عشر ألفا من العمال الذين يشتغلون بهذه الصناعة، فاحتفل التونسيون بذلك في مهرجان كبير.
فلما مر المقيم بمحل جمال (دكان معد لبيع الآثار القديمة) أثناء تجواله، وكان أبو إسحاق جالسا أمام الباب، فلم يأبه به رغم الإشارات المتكررة من أصحاب النفوس الضعيفة يطلبون منه القيام للمقيم شأن كل الناس، ولكنه يصمم على جلوسه، ويقول: "لا يجوز للمسلم أن يقوم لمشرك على جهة التعظيم".
وبموجب ذلك القرار الصادر عن إدارة محافظة أمن العاصمة، غادر الشيخ أطفيش تونس إلى القاهرة، بعد أن أبلغ المذكرة التي تضمنت عدم رغبة الحكومة الفرنسية في تواجده بالتراب التونسي بسبب أعماله العدائية ضد سلطة الحماية.
وبإبعاد الشيخ أطفيش، تهيأ للسلطة أنها استطاعت تنفس الصعداء بإزاحة الرجل الذي كان يثير متابعتها في الجزائر وفي تونس، نظرا لسلطته الروحية على أبناء الجالية الجزائرية، وخصوصا أبناء وادي ميزاب وأبناء جزيرة جربة من التونسيين الذين كانوا ينتمون إلى المذهب الإباضي.
ولم تمض سوى مدة قليلة، حتى تمكن الاستعمار من توجيه ضربة ثانية إلى هذه المجموعة بتجميد نشاط الشيخ صالح بن يحي الذي كان عضوا بارزا في اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري التونسي، وكان بحكم تأثيره المعنوي على أبناء الجنوب الجزائري، وصلاته الحميمة بالتجار التونسيين ملاذ الحزب في الأزمات المالية، ورسوله إلى التجار والمتبرعين.
وكثيرا ما وفق الشيخ صالح بن يحي في جمع المال للحزب، واستخدم في هذا الصدد صلاته الوثيقة بزملائه التجار، لما كان يشتهر به بينهم من الصدق والراحة والوطنية.
فقد وفد الشيخ صالح بن يحي على تونس في الرعيل الأول من طلبة وادي ميزاب سنة 1917. وبعد الدراسة بالزيتونة، اشتغل بالتجارة على طريقة أبناء جلدته المعروفين بمهارتهم في هذا الميدان، إلا أنه تعرف في هذه الأثناء على الله عبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب الحر الدستوري آنذاك، وأحد قادة الكفاح الوطني، وسرعان ما توثقت بينهما أواصر التعارف والود، فأشركه العالي في الدعوة إلى مناصرة الحزب، والترشح لعضوية لجنته المركزية لما لمس فيه من الحمية والإخلاص، والاستعداد السياسي.
ومما يذكره الشيخ إبراهيم أطفيش، عن جهود الشيخ صالح بن يحي في سبيل دعم الحزب الدستوري وشد أزر المناضلين التونسيين، رحلته التي قام بها إلى الجزائر في سنة 1920 لجمع المال من التجار الجزائريين، ودعم ميزانية الحزب قائلا عنه: "إن الشيخ صالح بن يحي قام بجولة سنة 1920 في الجزائر، فجمع من التجار الميزابيين ثمانين ألف فرنك، تبرعوا بها للحزب الدستوري، وهي وأمثالها من تبرعات الميزابيون المتصلة للحزب هي التي مكنت الشيخ الثعالبي من السفر إلى فرنسا للتعريف بقضية تونس".
نعم قد يبدو الأمر غربيا، ولكن يزول العجب إذا تيقنا أن كل عمل يقومون به ضد الاستعمار الفرنسي في أي مكان هو جزء من جهادهم لإعلاء كلمة الله. والمسلم الحقيقي لا يمكن أن يعتبر نفسه غريبا وأجنبيا في أي بلد إسلامي مهما بعد، ففي عالم اليوم معركة بين الإسلام والكفر.
فليختر كل واحد منا أين يضع نفسه من هذا الجهاد العالمي، فالله سبحانه يقول: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
نحن لا ننكر أن هناك أولويات طبعا، ولكن حتى في جهادنا في الجزائر كانوا يعتبرون الكفاح التحريري جزء من هذه المعركة، ويقول الله سبحانه وتعال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
وقد ضربت الجزائر أروع مثل في التضحية والفداء، وبينت بلغة علمية أن الإيمان الراسخ قد يقلع الجبال الروسي، ومن هذه الزاوية قامت الجزائر بجهادها التحرري المثل الحي لجميع المؤمنين في العالم. ولو كنا جاهدنا من أجل الأرض لكنا مثل إخواننا في فلسطين، عفا الله عنهم، إلى اليوم في ثورة.
ولنعد إلى تونس، لأقص عليكم حديثا سمعته من الشيخ عبد الرحمان يعلاوي، يوم كان مديرا للقرض الشعبي في الجزائر، ومقامه في حزب الدستور مقام مرموق، كما سلف، يصف حالة الحزب في تلك الأيام قائلا: "كان التونسي يأخذ عشرين دقة على عينو أو ما يدفعش فرنك، فذهب الشيخ صالح بن يحي والسيد صالح سيوسيو وقاموا بجولة في الجزائر، وجمعوا لنا العدد المذكور آنفا وصبوه في كيس الحزب".
وقد روى لنا أستاذنا الشيخ بيوض رحمه الله تعليقا على هذه التبرعات، أنه رأى صورة كاريكاتورية في إحدى الجرائد التونسية في العشرينات، صورة الشيخ عبد العزيز الثعالبي والشيخ صالح بن يحي يصب له في فمه كيسا من الدنانير، وكتبوا تحت الصورة "زدني من حلالك وحرامك وزقومك يا صالح".
وقبل أن أنهي كلامي في هذا الموضوع، أريد أن أذكر لكم، ولأمانة التاريخ، أن الرئيس الحبيب بورقيبة، حين شن حملة على خصومه، بعد أن انتخب رئيسا لجمهورية تونس، أمر أعوانه بتتبع خصومه أينما كانوا، وحيثما حلوا، إلا مكتبة "الاستقامة" التي كان يملكها الشيخ محمد الثميني، وقال: "فلا أسمح لأحد منكم بدخولها مهما كان الشخص الذي هو فيها لأن هذه المكتبة كانت في عهد الحماية مأوى لكل الأحرار".
وقد اتخذ زيارتها عادة كل سنة بعد خروجه من الحفلة الرسمية التي كانت تقام بجامع الزيتونة في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وهذا بالرغم من تعاطف مشايخنا رحمهم الله، مع اللجنة التنفيذية والتحام طلابنا بحركة السيد صالح بن يوسف، زعيم المعارضة آنئذ. وكان الرئيس بورقيبة يعترف أنه مدين لمشايخنا في تكوينه السياسي، ويقول لمساعديه: "إنهم كانوا مخلصين في صفوف الحزب، يعملون للوطن، ولا يطمعون لنيل منصب أو لمنفعة ذاتية". ودامت عادته هذه من زيارة المكتبة حتى وفاة الشيخ الثميني محمد، رحمه الله.
ويضيف الشيخ محمد علي دبوز نقلا عن الشيخ إبراهيم أطفيش قوله: "وكان الشيخ صالح بن يحي يمد حزب الدستور كلما احتاج إلى المال في آخر كل شهر، وكان التونسيون يثقون به ثقة كاملة، وهو الذي يجمع التبرعات منهم للحزب، وقد أنفق أمواله الطائلة على الحزب وتشاغل عن تجارته لاستغراقه في جهاده السياسي، فمات فقير".
ويستنتج في سياق حديث الشيخ أحمد توفيق المدن في عدد من صفحات "حياة كفاح": "إن ابن يحي كان على جانب وافر من الوطنية والإخلاص ورفعة النفس"، الأمر الذي حدا بالمدني إلى أن يصفه بقوله: "كان ملكاً في صورة إنسان، ما عرفت في حياتي رجلا مؤمنا كإيمانه، فاضلا كفضله، متواضعا كتواضعه، مجاهدا كجهاده، له وجه تشرق عليه شمس القلب الطاهر فتنيره بنور الجلال والوقار، وله نفس زكية تبث شعاعه من الإيمان واليقين إلى كل أطرافه، فما رأيت عضوا من أعضائه إلا رأيت فيه نوعا من تجلي الكمال المطلق، كان كلامه حكمة، وكان عمله جهادا، وكان مسعاه نفعا لأمة الإسلام، كان سره طهاره السريرة، وكان جهره عنوان الإيمان الصادق الذي هو نعمة الله السابغة على خير خلقه".
8. الحركات السياسية في الجزائر:
أما في الحركات السياسية المختلفة بالجزائر، فإن عددا بارزا من إخواننا شارك في حزب الشعب الجزائري، الذي يطالب باستقلال الجزائر كما تعلمون. وفي مقدمتهم شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء، الذي كان لفترة معينة أمينا عاما لهذا الحزب، وقد قام بعمل جبار في سبيل وحدة المغرب العربي، ووحدة صفوف شبابه.
فقد قرأوا في مهرجانه عقيدة التوحيد التي حررها ونشرها في الثلاثينات، كما أن السيد غرافة إبراهيم بن عيسى، كان من السابقين الأولين، ومما يجدر ذكره أن أول مجموعة ألقي عليهم القبض يوم 7/9/1937 مع الزعيم مصالي الحاج وعددهم خمسة كان فيهم ميزابيان: مفدي زكرياء وغرافه إبراهيم.
كما أن الاحتجاج الوحيد الذي نشر في الجريدة هو احتجاج الشيخ أبي اليقظان في جريدة الأمة، عدد 137. وقد ذكر السيد محفوظ قداش في كتابه أن الشيخ أبي اليقظان كان الصحفي الوحيد الذي رفع احتجاجا إثر هذا الاعتقال، وقد سكنت جميع الجرائد الجزائرية على مختلف مشاربها في ذلك اليوم. وقد انضم إلى الرعيل الأول من حزب الشعب جماعات من الشباب لا نستطيع عدهم في هذه الكلمة الموجزة، وكذلك في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية التي كانت خلفا لحزب الشعب بعد الحرب العالمية الثانية.
ولما نشأت حركة النواب في عمالة قسنطينة بقيادة الدكتور بن جلول، ومعه فرحات عباس، كانت هذه الحركة تجمع نخبة من المثقفين الذين تخرجوا من المدارس الفرنسية وكانت هذه الحركة تدعو إلى المساواة في الحقوق بين جميع المتساكنين في الجزائر بدون تمييز بين دياناتهم، وكانت تدعو إلى الاندماج في فرنسا، وهي وجهة نظر هؤلاء المثقفين، وناهيك بالرئيس فرحات عباس.
وكانت مشاركة الميزابيين فيها متميزة كذلك. وقد حدثنا السيد بوبکر محمد بن عمر رحمه الله، رواية عن الدكتور بن جلول زعيم هذه الحركة أنه قال في اجتماع رسمي عقده الحزب بعد الانتخابات لتقييم النتائج واستخراج العبر، قال ما معناه: لقد كان الفضل في نجاحنا في الانتخابات للميزابيين، فتبعوا إن شئتم الدوائر لتصلوا إلى النتيجة التي توصلت إليها، وضرب المثل بالدكتور سعدان، حين رشح نفسه في بسكرة، فلم ينجح لأن الميزابيين صوتوا ضده. وهنا تبادر لي خاطر وهو لماذا صوتوا مع هذا الحزب في قسنطينة وقالة وعناية والعلمة وشلغوم العيد والبرج وباتنة، ففاز كل من أيدوه، ولم يؤيدوا الدكتور سعدان؟ والجواب سهل بسيط، وهو أن الميزابيين ليسوا بدعا من البشر، فقد يتفقون وقد يختلفون. وقد سبق أن قلت إن هذه المشاركات لم تكن كلها باتفاق الجميع، وأنتم ترون أنهم شاركوا في كل هذه الحركات رغم تباينها، ولكل رأيه ونظريته. ومهما يكن من أمر، فقد كانت مشاركتهم في هذا الحركة لأسباب داخلية معينة، وكل ما نريد أن نؤكده هو أنهم لم يكونوا يعيشون على هامش الأحداث ولم يكونوا منعزلين أو انعزاليين، كما ينعق بذلك بعض الناعقين.
وقد شاركوا كذلك في حزب البيان الديمقراطي الجزائري، الذي كونه السيد فرحات عباس بعد انفصاله عن حزب النواب، وبعد الحرب العالمية الثانية.
وشارك عدد من الشباب المثقف في الحزب الشيوعي الجزائري، ولا يمكن أن نقول إنهم كانوا عقائديين في الحزب، بل شارك الجزائريون في هذا الحزب لما كان يتسم به من التضامن مع من اشترك فيه، كما أنه كان ميدانا للمطالب الاجتماعية للعمال الجزائريين، وقد سئل الشيخ عبد الحميد بن باديس عن الدخول في الحزب الشيوعي الجزائري فقال: نحن مستعدون أن نتعاون مع الشيطان لنيل مطالبنا من فرنسا.
9. جهادهم في الحرب التحريرية:
أما جهادهم في الحرب التحريرية، فقد كان في المستوى المطلوب منهم ولا نستطيع أن نأتي في هذه المسامرة على كفاحهم وجهادهم داخل الجزائر وخارجها ولا بأس أن نذكر عينات لأبنائنا حتى يعرفوا تاريخهم.
عندما اندلعت الثورة الجزائرية المسلحة كان الميزابيون من أشد وأهم العناصر الذين اشتغلوا في هذا النضال، ومن أصدق من أعدّوا له وأثبت من كافحوا بعد وإخلاص وتضحية في بعث الثورة، والاستمرار فيها والسير إلى قمة النجاح.
ولو أتيح لمؤرخ سياسي أن يستلهم الفن والأدب، وقام بدراسة الأناشيد التي كان يتغنى بها الأطفال والشباب في مدارسهم ومعاهدهم منذ الأربعينات، لنكشف في الروح النضالية العالية التي أعدّت للثورة ورافقتها وتغنت بنجاحها.
في أواخر الأربعينات، وهم يعدّون للثورة، كان الشباب في ميزاب يتغنى وبأمثالهم قولهم:
إن أضــــــــــــــرمت نـــــــــار الوغــــــــــى قــــــــــدم لها الوقــــــــــــــــود
لا تــــــــــــرتـــــــج أن تبلـــــــــغـــــا بـــــــــــدونهــــــا الآمـــــــــــــــــــال
وفي الخمسينات والشباب الجزائري مشتبك في النضال الفعلي المسلح مع قوات الاستعمار الفرنسي كان هذا الشاب يتغنى بأمثال قولهم:
يا شباب المسلمين قُد جنود الفاتحين
وتقــــــدّم لا تهـــــــن
إنما المجد الحروب ولدى المسلم الكروب والمعاني لا تؤوب
بسوى الحرب الزبون
وربما كانت هذه الأناشيد التي تغنت بها المدارس والمعاهد الميزابية في هذه الفترة النضالية تبلغ المئات، وكلها تدعو إلى التضحية والفداء والاستمرار في النضال وهي لا شك تعطي صورة كاملة عن نفسية هذا الشعب الصغير.
ولاشك أن السطحيين الذين ينظرون إلى الظواهر قد تخدعهم قلة الأسماء في جبهات القتال، غافلا عن النسبة العددية. ومع ذلك فقد لمعت هناك أسماء وسجل شهداء، ورجع من جبهات القتال بعد الانتصار مناضلون شرفاء، لم يمتنوا على الجزائر بنضالهم، ولم يطلبوا من الدولة ثمنا لوطنيتهم بمنحهم ألقابا أو سلطة، وإنما رجعوا في تواضع إلى أعمالهم الحرة في البادي المرة دون ضجيج ولا صخب.
هؤلاء جميعا يعرفهم زملاؤهم من رفقة السلاح، أو من قادة النضال ومن مسيري الإحصاءات الرسمية، التي تثبت للتاريخ وللأجيال القادمة ذلك الرصيد الغالي الذي دفعته الجزائر ثمناً للحرية إذا تولته أقلام صادقة ومخلصة.
أما الدور الذي قام به الميزابيون في هذا النضال، وأغلبهم تجار موزعون على جميع أنحاء القطر الجزائري فلعله يتلخص في الخطوات الهامة الآتية:
1. في جبهات القتال:
لا شك أن الوجه الواضح لثورة التحرير الجزائرية إنما يظهر في العمل البطولي الرائع الذي قام به المناضلون والفدائيون لمجابهة القوات الاستعمارية بمختلف تشكيلاتها في ساحات القتال، وفي الأودية ورؤوس الجبال، وبين الغابات والأدغال.
وقد أخذ الميزابيون في هذا المجال قسطهم الذي يتناسب مع حجمهم وربما كان أكبر قليلا من الحجم الذي يقدم لهم، ومن الأمثلة على ذلك أنه عند اندلاع الثورة كان عددهم يتراوح بين الستين والسبعين ألفا. وقد التحقت أعداد من شبابهم بمعاقل الثوار على كل المستويات بل إنه على أرفع المستويات كان في مقدمة من التحق بالثورة في الجبال.
2. التمويل:
لا شك أن تمويل الثورة لا يقل أهمية عن حمل السلاح فيها، وقد اعتمدت الثورة الجزائرية ضد الاستعمار اعتمادا كاملا على متاجر الميزابيين. فقد كانت جميع الطلبات التي تقدمها العناصر المسؤولة في الثورة إلى أي متجر تحقق في الحال وفي صمت، وفي هدوء كأنها عملية من عمليات البيع والشراء ولكنها دون مساومة.
ثم إن القيادة قد اتفقت مع شخصيات معينة منهم على أن تكون بعض متاجرهم في كل مكان مصدرا للتمويل ومركزا لتزويد جبهات القتال بما يحتاج إليه.
وقد كان التجار الميزابيون في مختلف المدن الجزائرية يعدون كل ما تحتاج إليه الثورة الجزائرية تحت أيدي أمينة لتصل إلى أماكنها عند الحاجة، وإلا بقيت محفوظة أو مخزونة حتى يأتيها الطالب.
وهكذا قاموا بجانب ثان هام من جوانب جهاد العدو، وقيادة الثورة الجزائرية تعرف هذا حق المعرفة، وتقدره حق التقدير، ولا يقلل من أهمية النضال أن بعض المناضلين لا يعرفون هذا، ولا يعرفون الأسس السرية التي انبنى عليها النضال، إلا أنهم يمرون وسط شوارع المدن فيرون المتاجر مفتوحة، والأعمال جارية في روتينية واضحة وأصحاب المتاجر يواصلون أعمالهم فيها في هدوء ونشاط، فيعتقدون أن أولئك التجار غير مهتمين بالثورة، فهم إما سلبيون، وإما خونة، وإما عملاء للاستعمار، فيشيعون عنهم الأراجيف التي ليست من الحق في شيء، والتي ربما سببت في إيذاء ناس كان إخلاصهم للثورة وبذلهم في الجهاد وعملهم في سبيل الله لا يقل عن أولئك الذين عرضوا أنفسهم للموت في ميادين القتال.
3. تأمين الأشخاص:
لا تخلو مدينة من مدن الجزائر من عدد من المتاجر أصحابها من الميزابيين. ولعل تسخيرهم لأعمال التجارة في جميع أنحاء الجزائر كان وفق مشيئة الله تعالى لحكم يعلمها، وعرف الناس بعضها في هذه الظروف، وهو تأمين المجاهدين في سبيل الله لإخراج المستعمرين من بلاد الإسلام.
بمجرد ما يحس أحد رجال الثورة، عند دخوله للمدن أو القرى للقيام بأعمال تقتضيها مصلحة الثورة، برقابة السلطة الاستعمارية أو بتتبعها له، فإن أول متجر للمزابيين يقع في طريقه يكون صالحا لأن يكون مخبأ أمينا له، فيلجأ إليه في الحال، لأنه يعرف أن لهم وسائل في إخفاء من يلجأ إليهم لا يمكن لشيطان الاستعمار أن يكشفها، وهو أيضا على يقين أن ذمم أولئك التي لا تخفر مهما كانت النتائج، وهو يعرف كذلك أن مجرد التجائه إليهم يجعلهم يحسون بمقدار الخطر الذي يهدده، ولذلك فهم حريصون أن يوفروا له الحماية والأمن حتى ينجز المهمات التي جاء من أجلها.
وهم يعرفون فوق ذلك أن انكشافه عندهم يعرضهم ويعرضه لكثير من الأذى ويضعهم تحت الرقابة المستمرة.
وتروى في هذا الباب قصص ونوادر وبطولات تعتمد أولا على صدق النية في الجهاد بكل الوسائل، ثم على الذكاء واللباقة وحضور البديهة واتساع الحيلة وحسن التصرف، وهي في مجموعها تكشف عن المعاناة الحقيقية لركائز الجهاد المجهولة التي كانت تعمل وهي لا تحتسب من أحد من الناس شكرا أو أجرا أو فخرا.
ومن تلك النوادر أن أحد التجار أعد في متجره أنواعا من الألبسة التنكرية واللحى والشعور المستعارة والعمائم الجاهزة، وألبسة كالتي بلبسها عمال الميزابيين في متجرهم. وعندما يدخل إليهم ملتجئ من متابعة العدو سرعان ما توضع على وجهه لحية وعلى رأسه عمامة وعلى ظهره ثوب من ثياب العمل، ثم يبدأ في العمل في الجوانب الواضحة من المحل، فإذا جاء المطاردون لم يخطر لهم أن طريدهم هو أحد العاملين في واجهة المحل، واندفعوا بفطرتهم إلى الداخل يبحثون، يقلبون المحل تفتيشا ولكنهم لا يعثرون على من يطلبون، وهو قد يكون في ذلك الحين بين أيديهم وأعينهم يمد قطعة قماش إلى زبون أو يقشر البصل في المطبخ.
4. تأمين المواصلات:
بحكم اشتغال الميزابيين بالتجارة في جميع أنحاء الجزائر فإن الحركة والتنقل من مكان إلى مكان، وشحن السيارات بالبضائع من بلد إلى بلد مظهر طبيعي من مظاهر نشاطهم، لا يثير في عمومه شكوك الاستعمار، ولا يستدعي المراقبة والتتبع والتحقيق. ولذلك فقد كانت مطالب الثورة تنتقل على أيديهم من بلد إلى بلد في صورة بضائع تجارية مطلوبة، وتستقر تلك المطالب في صورة لبضائع في متجر من متاجرهم لتصل بالتدريج حسب الخطط التي تضعها قيادة الثورة إلى أماكنها من جبهات القتال، في بطون الأودية ورؤوس الجبال. ولربما كان أشد الطرق أمنا وأكثرها نشاطا وحركة لإمداد الثورة بما تحتاجه من مؤن إلى أقصى مواقع الثورة، إنما هي التي كانت تمر على متاجر الميزابيين، ويتولون هم أنفسهم ترحيلها واستقبالها تم إيصالها إلى أماكنها التي ينبغي أن تكون فيها في مواعيدها المحددة حيث تكون تحت تصرف المناضلين.
5. تأمين المخابرات:
إن الميزابين بطبيعة أعمالهم التجارية وتنقلهم بسببها بين جميع أطراف البلاد وخارج أطراف البلاد، قاموا بأروع الأعمال في تأمين مخابرات الثورة، سواء كان ذلك في إيصال مخابرات الثورة إلى الشعب أو في إبلاغ مخابرات الشعب إلى الثورة. فقد ربطوا بين عناصر الثورة في كل مكان، وأمنوا مخابراتها بحيث أصبحت الاتصالات بين أعضاء الثورة تتم في سرعة وسرية ودقة تستدعي الإعجاب والتقدير. فما تريد جهة من جهات الثورة تبليغ أمر أو خير إلى جهة أخرى بعيدة حتى ينطلق تاجر ميزابي إلى تلك الجهة البعيدة لعقد صفقة تجارية في الظاهر، قد تتم أو لا تتم، ولكن المهم من تلك الرحلة التجارية أن يتم فيها للثورة ما شاءت من مخابرات تصل في حينها، وقد قام التجار الميزابييون في تونس وأفراد البعثة العلمية هناك بربط كثير الحلقات بين الحكومة الجزائرية المؤقتة في تونس وقيادة النضال في داخل الجزائر. وقد كانت بعض متاجر الميزابيين في أغلب المدن الجزائرية بمثابة دور البريد أو مراكز المخابرات للثورة، فهي مستودعات للرسائل والنشرات والبلاغات، وكانت تلك المراكز معروفة عند عناصر القيادة. فتردد عليها حملة البريد السري للثورة، أو توصل إليهم إذا خيف من التتبع والمطاردة. وفي أكثر الأحيان يودع هناك ما يراد نقله أو توزيعه إلى جهات فيصلها في أمان ودقة. وكانت تلك المتاجر تسلم وتستلم ما يمر بها إما لشخص معروف لديها وإما بكلمة سر هي مفتاح التعامل.
ولقد نال التجار الميزابيين بسبب هذه الأعمال كلها كثير من الشر والأذى كالسجن والضرب والتعذيب بأنواعه المختلفة ومصادرة الأموال.
ولكن الاستعمار في جميع حالاته تلك، لم يستطع بجهازه التعذيبي الجهنمي وبطاقمه الوحشي أن ينتزع سرا من ميزابي واحد من أوقعهم سوء حظهم تحت براثينه، وإنما كان الواحد منهم يتلقى ما ينزل عليه في ألم وصبر، ومحتسبا ذلك في الله. ولم يذكر عن واحد منهم أنه أشار لا من قريب أو بعيد إلى ما يضر بالثورة أو برجال الثورة. ولقد لقي بعضهم حقه تحت التعذيب دون أن تنفرج شفتاه عن أي سر من أسرار الثورة، وعنده منها مخبآت سلمها خلفاؤه إلى رجال الثورة كاملة سليمة.
هذا الموقف البطولي نفسه كان مدعاة للحيرة والاندهاش بالنسبة إلى الجانبين، فهو من جانب تكذيب لتحريات رجال المباحث الاستعمارية فيما يعتقدون أنهم وضعوا عليهم اليد وأمسكوه من كل أطرافه، وهو من جهة أخرى قلل من الشائعات والأخبار عما يقومون به من أعمال في صمت وإتقان، حتى ظن السطحيون أن جهودهم في مكافحة الاستعمار ضئيلة. وكانت نتيجة هذا الموقف البطولي من تحمل العذاب وكتمان السر أنه لن يستطيع أحد أن يقف يوما فيزعم أن ضررا لحق به أو بشخص، أو بمرفق من مرافق الثورة بسبب اعتراف ميزابيين عليه بعملية الترغيب أو الترهيب أو التعذيب. والسبب في هذا الموقف أن الإباضية لا يجيزون شرعا لأي شخص أن يخفف عن نفسه العذاب بتوريط غيره.
وفي ختام الحديث عن الدور الفعال الذي أسهم به الميزابيون في الثورة التحررية ما بين سنة 1954 و1962 نشير إلى بعض النقاط:
* اندلعت الثورة في فاتح نوفمبر 1954، وكان نشيد الثورة الرسمي "قسما" هو النشيد الرسمي للدولة الجزائرية حتى اليوم وهو من إنشاء شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء، مثل نشيد "فداء الجزائر" الذي كان النشيد الرسمي لحزب الشعب الجزائري ومن هذا أن الشعراء الميزابيين استطاعوا أن يعبروا عن المشاعر الوطنية للشعب الجزائري بأحرّ وأصدق مما يعبر غيرهم، وأنهم يحسون بالقضية الوطنية في كل أدوارها ومراحلها بأعمق مما يحسه غيرهم من الشعراء.
* كان أول ثلاثة الأطباء انضموا إلى صفوف الجيش في أول يوم من الميزابيين استشهد منهم اثنان وهما: تيرشين إبراهيم في نواحي الونشريس قرب الأصنام، وقضي بكير في جبال سوق أهراس، وقد سمي باسمه مستشفى غرداية. أما الدكتور الثالث فهو الدكتور بابا عمر عبد الرحمان. ولم يكن من أبناء الميزابيين طبيب غيرهم، ومعنى هذا أنهم بعثوا بكل أطبائهم إلى صفوف الجيش الذي حرر الجزائر فاستشهد اثنان في جبهة القتال.
* أدار السيد بن خدة والعربي بن مهيدي معركة الجزائر العاصمة من ثمانية عشر مركزا كانت كلها للميزابيين، قام فيها رجال الثورة بأدوار بطولية نادرة لم تكشف إلا بعد إضراب الثمانية أيام، وكل هذه المراكز كانت للميزابيين في الأحياء الأوروبية من عاصمة الجزائر.
* تكونت الولاية السادسة تحت قيادة العقيد أحمد بن عبد الرزاق المدعو سي الحواس في مركزها الأول وهو "غابة الحاجب" التي هي ملك لآل الخبزي وانضم كل أبنائه إلى صفوف الثورة، فكان منهم من صعد إلى الجبال ومنهم من قام بالعمل السياسي وتركيزه في منطقة الصحراء.
* توقف إطلاق النار في سنة 1962، ومركز قيادة المنطقة الخامسة من الولاية السادسة في العطف بوادي ميزاب، وكانت مساحة هذه المنطقة تمتد ما بين الحدود التونسية بوادي سوف شرقا إلى الأغواط غربا، إلى تمنراست جنوبا. وغني عن الذكر أن اختيار القيادة الرشيدة لمركز هذه المنطقة لم يكن عبثا ولا مصادفة.
هذه صورة مختصرة جدا عن جهاد الميزابيين في سبيل الله وهم يحرصون شديد الحرص على عدم التحدث عما قاموا به لأنهم قاموا به الله، ومنه وحده ينتظرون الجزاء.
10. مشاركتهم في الحركة السلفية:
قام الشيخ محب الدين الخطيب بحركة سلفية في مصر تدعو إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى تنقية الإسلام من الشوائب التي علقت به في فترات الجهل والركود. وقد احتفل بالذكرى الثانية عشرة، وذكر الذين كان لهم الفضل الأكبر في مساندة الحركة السلفية، فذكر منهم الشيخ طاهر الجزائري والشيخ تقي الدين الهلالي المغربي، والشيخ سليمان باشا البارون الليبي والشيخ محمد خضر لحسين التونسي والشيخ أبو إسحاق إبراهيم الجزائري.
الخاتمة:
وقبل أن أختم حديثي، يجمل في أن أنوه بجهاد الشيخ أبي اليقظان إبراهيم عميد الصحافة الجزائرية، فقد كان عمله الصحفي بارزا في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما العالم العربي والمغربي، كان يمثل الصحفي النزيه الذي قارع الاستعمار، وحارب البدع والخرافات، ونازل أساطين السياسة بتحليلاته السياسية القيمة. ولولا خوف التطويل لسجلنا عينة من نظرته إلى قضية فلسطين في العشرينات، إذن لرأيتم كيف تكون فراسة المؤمن الذي يبصر بنور الله. لقد كان رغم انتمائه لجمعية العلماء ينشر كل ما يهم الأحزاب السياسية الجزائرية نشرا موضوعيا نزيها، وينتقد كل موقف يراه مخالفا للمبادئ السامية، وقد أصدر ثمانية جرائد، ما بين 1926 إلى 1939 وقد حجزت كلها وأوقفها الاستعمار، وأصدر عليه أمرا شخصيا بعدم السماح له في آخر المطاف بإصدار آية جريدة.
وإن مجموعة جرائده جديرة بأن يعاد طبعها، فهي رصيد هائل من تاريخ الجزائر. وقد ألف الدكتور محمد ناصر حولها كتابه "أبو اليقظان وجهاد الكلمة".
وأخيرا لست بهذه الكلمة أريد أن أفتخر بما فعله الآباء والأجداد، بل أريد منكم أن تسيروا على نهجهم، وتدرسوا تاريخهم، لتقتدوا وحاربوا هذه النزعة الرجعية التي أصبحت تدور في أفكار شبابنا الجامعي. وكل ما أوصيكم به أن تقرؤوا هذا التاريخ في مصادره، وتأخذوه من أفواه الرجال، فإن كثيرا من ما بين السطور لا يمكن أن يقرأ في الكتب، بل يجب أن تعقد له حلقات دراسية ومناقشات وتحليلات.
نسأل الله أن يأخذ بأيدينا إلى ما يحبه ويرضا، والسلام عليكم ورحمة الله.
ألقيت هذه المحاضرة في المهرجان الثقافي الحادي عشر لنادي الإصلاح بغرداية وذلك مساء 16 ذي الحجة 1408ﻫ الموافق ليوم 30 جويلية 1988م.
-بتصرف-
المصدر: الشيخ القرادي آثاره الفكرية. ص144-176.
شاركنا بتعليقك