إسهامات

من أهم الصفات الواجب توفرها لدى المحاضر أو الخطيب ما يلي:

1. سرعة البديهة، وسرعة إدراك ما يتطلب العارض الطارئ من رد فعل مناسب

قد يحدث أمر طارئ أثناء محاضرة ما (انقطاع التيار الكهربائي، توقف مكبرات الصوت عن العمل، حدوث انفجار مدو،..إلخ). إن كل هذه العوارض تحتاج من المتحدث تصرفا فوريا وذكيا، وفي بعض هذه الحالات قد يكون السكوت أو التجاهل هو الحل الأمثل إذا لم يعثر الخطيب أو المحاضر على الكلمات التي تسعفه على نحو جيّد وصحيح. إذا لم يملك الخطيب سرعة البديهة فهذا لا يعني أن يبحث عن نشاط آخر، ومع أنه لا شيء يسد مسدها إلا أنه سيكون في إمكانه أن يثقف نفسه بالاطلاع على ما فعله أمثاله من المحاضرين والخطباء في الظروف الصعبة والطارئة.

2. حماس الخطيب وتعاطفه مع الأفكار التي يطرحها والقضية التي يعمل على إقناع الناس بها

والحقيقة أن المرء مهما حاول إخفاء برودة عاطفته، فإن الناس يشعرون بذلك مهما استخدم من الكلمات البليغة، صدق العاطفة يأتي من وراء اعتقاد المتحدث بأهمية ما يدعو إليه وخطورة عدم التجاوب معه، وهذا يعني أن على المرء أولا أن يكون هو نفسه مقتنعا بما يدعو إليه، أو يحذر منه، وإلا فلا فائدة، وقد ذكر أن الحسن البصري رحمه الله قال لواعظ لم تؤثر فيه موعظته: "يا هذا، إن في قلبك لشرا أو في قلبي"، ولكن لا بد للواحد منا أن ينتبه إلى أن للحماسة الإيجابية حدودا تقف عندها، فإذا تجاوزت انقلبت إلى شيء ضار ومؤذ، كما لو أن الخطيب اندفع في سوق الألفاظ التي تنطوي على المبالغة، أو بدأ يسحب من رصيد الحقيقة التي يؤمن بها طمعا في تأثير الناس وانقيادهم له.

3. حُسن المظهر

إن الثياب النظيفة الجميلة ذات الألوان المتناسقة، وكل ما يتصل بالأناقة الشخصية من ترتيب وتنظيم؛ تعزز ثقة الإنسان بنفسه، وتولد لديه درجة حسنة من الرضا عن الذات، ومن وجه آخر فإن معظم الناس لا يستطيعون إصدار أحكام موضوعية على ما يسمعونه بعيدا عن شخصية قائله، بل إن أكثر الناس يقتنعون بالفكرة إذا ملأ صاحبها أعينهم وانتزع إعجابهم، ويزهدون فيها إذا جاءتهم من شخص عليه مظاهر الفوضى والإهمال؛ حيث إن الحكم على جودة الأفكار صعب، ومناقشتها أمر شاق، والأيسر من ذلك الحصول على الثقة بمن يوردها.

4. الوضوح

لا ريب أن مهمة الإرشاد التي يضطلع بها الداعية والخطيب تجعله طرفا في معادلة ثنائية، وتوجد بالتالي حاجزا بينه وبين الناس، مما يستحثهم على كسر ذلك الحاجز، والتخلص من تلك الثنائية قدر الإمكان، وأعتقد أن من حق المرء ومصلحته أيضا أن يكون له خصوصيات لا يطلع عليها أحد، لكن المبالغة في التكتم تثير الناس عليه، وتوجد في أنفسهم نوعا من الجفاء له، بل الحقد عليه، كما أن تلك المبالغة تسهل نشر الأقاويل المغرضة حوله؛ لهذا فإن من السمات الشخصية المحببة في قادة الرأي والعلم والفكر أن يكونوا واضحين ومكشوفين قدر الإمكان.

5. يحتاج المتحدث الناجح إلى أن يكون قريبا ممن يحدثهم مقبولا لديهم

إن بلاغة الألفاظ وجودة الإلقاء قد لا تزيد إلا بعداً، ومن أهم ما يحقق ذلك انسجام ما يقول المتحدث مع ما هو معروف عنه من مواقف وسلوكيات، والضامن لذلك هو إخلاصه لله تعالى واستقامته على شرعه، وحبه لدعوته واعتزازه بها، حين يتحدث الخطيب عن تربية الأولاد أو عن ترك الغيبة أو عن الحفاظ على الوقت، وتكون شواهد أحواله دالة على مفارقة كبيرة بين قوله ووضعه، فإن الناس ينشغلون عن سماعه بتذكر تلك المفارقة، وبلومه وتقريعه داخل أنفسهم.

إذا أراد المتحدث أن يكون أكثر قربا من جمهوره وأكثر تأثيراً فإن عليه أن يكسر بعض المألوفات، كأن يلقي السلام على الحاضرين قبل صعود المنصة، أو يذكر بعض أسماء الموجودين في سؤاله عن شيء أو طلب موافقته على فكرة.

وقد كان أحد المتحدثين يقول للحضور: سوف أتوقف عن الحديث حين أرى أي واحد منكم يتثائب، وهذا شيء جميل ومفيد في هذا الشأن، وعلى كل فنباهة الخطيب المتحدث تدله دائما على ما يجعله ألصق بمستمعيه، وليس عليه سوى الاستجابة لإيحاءاتها.

6. جهارة الصوت نعمة كبرى من الله تعالى وحلاوة الصوت ورخامته نعمة أخرى

على المتحدث أن يعرف كيف يستفيد منها في استمالة مستمعيه والتأثير فيهم، لا شك أن الصوت من الخصائص الأكثر ثباتا في جسم الإنسان، وتغييره من الأمور الصعبة جدا، لكن يمكن أن نتعلم شيئا عن أفضل توظيف له وأفضل استثمار لتأثيره، وهذه بعض الملاحظات في هذا الشأن:

لا ريب لدينا في أن الكلمات هي الناقل الرئيس للدلالات والمعاني، لكنها ليست هي العامل الحاسم في تكوين الانطباعات الأولية والصور المنطبعة لدى المخاطبين، وقد دلت بعض الدراسات على أن نغمة الصوت والمظهر الخارجي للشخص تساهم بنسبة 90٪ من الانطباع المتكون عنا لدى الآخرين.

وتشير دراسات أخرى إلى أن النغمة الصوت وقوته وسرعته تأثيرا يصل إلى 30٪ في تفسير الآخرين لما نقوله، ومهما قيل في مبالغة مثل هذه الأرقام إلا أنها تظل ذات دلالة، ينبغي أخذها بعين الاعتبار.

 على المتحدث -ولا سيما الخطيب- أن يتأكد دائما من ملاءمة صوته للسامعين، فالصوت المرتفع مزعج ومؤذٍ، وكثيراً ما يجعل الناس ينشغلون بوطأته عليهم عن تفهم المعاني التي تلقي على مسامعهم، والصوت المنخفض يحرم البعيدين عن المحاضر من سماعه والاستفادة منه، والحقيقة أن من الملاحظ أن كثير من الوعاظ والخطباء يرفعون أصواتهم، ويجعلون نبراتهم حادة أكثر بكثير مما هو مطلوب.

الأماكن المفتوحة تحتاج إلى صوت أكثر ارتفاعا من الأماكن المغلقة، والمتحدث في حاجة إلى أن ينتبه إلى أن عليه أن يقتصد في رفع صوته إذا كان يعلم أن حديثه سيكون مطولا؛ حتى لا تخذله حنجرته في منتصف الخطبة أو المحاضرة، وكم سمعنا من خطيب بح صوته إلى حد عدم القدرة على الإفهام نتيجة عدم أخذه هذا بعين الاعتبار.

♦ من المهم أن يعثر المتحدث على نقطة توازن ملائمة في مسألة السرعة والبطء في كلامه، فالسرعة الزائدة عن الحد تجعل الناس لا يستوعبون الرسالة التي يريد المتحدث إيصالها إليهم، والبطء يجعلهم يملون ويشردون بأذهانهم، ومن المفيد أن نتذكر أن المرء إذا تحدث ببطء شديد ترك انطباعا لدى السامعين بأنه منهك وضعيف أو غير موهوب، وهم يفضلون الشخص الطليق المتدفق في كلامه ما لم يؤد ذلك إلى عجزهم عن متابعته واستيعاب ما يقول، وكلما كان الكلام دقيقا وعميقا احتاج إلى نوع من البطء.

♦ من المهم للمتحدث والخطيب والمحاضر أن يهتم بمواطن الوقف أثناء كلامه حتى يساعد المستمع على الفهم. التوقف القصير بين الكلمات التي ننطق بها أثناء خطبة أو محاضرة أو مرافعة قضائية، تحدث تأثيرا بالغا في نفوس المستمعين.

يحكى أن محاميا وقف أمام محكمة ليقول: قد كانت عربة النقل تسير (توقف) بسرعة 70 ميلاً في الساعة عندما صدمت الفتاة، إن ذلك التوقف بعد كلمة (تسير) كان يستهدف لفت أنظار القضاة إلى معرفة سرعة السيارة، أما إذا أراد المحامي لفت نظرهم إلى أن الفتاة كانت ضحية خطأ ارتكبه السائق، فإن عليه أن يتوقف آنذاك عند (صدمت)، ثم يقول: (الفتاة)، وينبغي ألا تكون الوقفة مفرطة في قصرها حتى تؤدي وظيفتها في لفت الانتباه، كما ينبغي إشراك العين في عملية التأثير أثناء التوقف.

-بتصرف-

المصدر: كتاب المتحدث الجيد، د. عبد الكريم بكار، صفحة 14-28.

شاركنا بتعليقك