إسهامات

النص الأول، الربيع بن حبيب:

قال الربيع بن حبيب: بلغني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: "أنك لن تجد ولن تؤمن وتبلغ حقيقة الإيمان حتى تؤمن بالقدر خيره وشره أنه من الله". قال: قلت يا رسول الله كيف لي أن أعلم خير القدر وشره. قال: "تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك فإن مت على غير ذلك دخلت النار". نقلا عن الجامع الصحيح، الجزء الأول ص 19-20.

النص الثاني :أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة:

رأي أبي عبيدة في القدر ومجادلته مع أصل ابن عطاء. وحكى بعض أصحابنا أن واصل بن عطاء المعتزلي صاحب عمر بن عبيد كان يتمنى لقاء أبي عبيدة، ويقول: لو قطعته قطعت الإباضية، قال: فبينما هو في المسجد الحرام ومعه أصحابه، إذ أقبل أبو عبيدة ومعه أصحابه، فقيل لواصل: هذا أبو عبيدة في الطواف، قال فقام إليه واصل فلقيه، وقال: أنت أبو عبيدة، قال: نعم، قال: أنت الذي بلغني أنك تقول: أن الله يعذب على القدر، فقال أبو عبيدة: ما هكذا قلت، لكن قلت أن الله يعذب على المقدور. فقال أبو عبيدة: وأنت واصل بن عطاء. قال: نعم، قال: أنت الذي بلغني عنك أنك تقول ان الله يعصي بالاستكراه. قال: فنكس واصل رأسه فلم يجب بشيء. ومضى أبو عبيدة وأقبل أصحاب واصل على واصل يلومونه يقولون كنت تتمنى لقاء أبي عبيدة، فسألته فخرج وسألك فلم تجب! فقال واصل: ويحكم بنيت بناء منذ أربعين سنة فهدمه وأنا قائم، فلم أقعد ولن أبرح مكاني. نقلا عن كتاب: طبقات المشايخ للدرجيني، الجزء الثاني ص 246.

النص الثالث :الإمام أبو طاهر اسماعيل بن موسى الجيطالي.

قال الإمام أبو طاهر اسماعيل بن موسى الجيطالي:

اعلم أن القدر والطلب لا يتنافيان، والتوكل والكسب لا يتضادان، وذلك أن تعلم أن ما قضى الله تعالى فهو كائن لا محالة، كما ما علم الله أن يكون فهو كائن لا محاله، ومن خالفنا في القضاء والقدر وافقنا في العلم.

فرب أمر قدره الله وصوله إليك بعد الطلب فلا يصل إليك إلا بالطلب. والطلب أيضا من القدر ولا فرق بين الأمر المطلوب وبين الطلب، فإنهما مقدوران فمن هنا ثبت أنهما يتنافيان، وكذلك التوكل مع الكسب لأن التوكل محله القلب والكسب محله الجوارح ولا يتضاد شيئان في محلين، فبهذا يتحقق العبد أن التقدير من الله، فإن تعذر شيء فبتقديره، وإن اتفق فبتيسيره.

وفي الحديث جاء رجل إلى النبي عليه السلام على ناقة له فقال يا رسول الله: أدعها وأتوكل فقال: اعقلها وتوكل، فالتوكل على الله تعالى هو الثقة بما ضمنه والقطع بكون ما يحكم به، فمن رام أمرا من الأمور فليس الطريق في تحصيله أن يغلق بابه عليه، ويفوض أمره إلى ربه وينظر ذلك الوجه الذي أراده، وقد روي أن النبي عليه السلام ظاهر بين درعين، واتخذ خندقا حول المدينة يستظهر به ويتحرس من العدو، وأقام الرماة يوم أحد يحتفظ بهم من الكفار، ويلبس لامة الحرب، واسترقى واكتوى وتداوى وأمر بالمداواة وقال: إن الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء وأمر الله تعالى الإيمان بقضائه وقال لنبيه: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا التوبة: 51 وأمر عباده أن يأخذوا بالحذر وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ النساء: 71. وقد قال الله تعالى لمريم عليها السلام ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ مريم: 25.

وقال ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ الجمعة: 10 ولم يأمر بالقعود. وقد قيل عن بعضهم: من لزم المسجد وقبل كل ما يأتيه فقد سأل الناس إلحافا، أي التأكد والطلب والإلحاح على الصدقة.

نقلا عن كتابه – قواعد الاسلام – الجزء الأول ص: 3231

النص الرابع: الشيخ محمد بن يوسف اطفيش –قطب الأئمة-

قال الشيخ محمد بن يوسف اطفيش:

يجب الإيمان بالقدر وهو إيجاد الأجسام والإعراض، وبالقضاء وهو الحكم بها في الأزل، فهو صفة ذات، أو إثباتها في اللوح فهو صفة فعل.

وزعمت المعتزلة أن الفاعل باختيار خالق لفعله وإن فعل الاضطرار مخلوق له سبحانه أو للطبيعة، أولا فاعل له على أقوال عندهم، قلت ولا حجة عليهم في إقرارهم بأن الله علم بما سيفعلونه كما توهم بعضهم فإنه بمنزلة قولهم أنه عالم بما سنخلق بل الحجة في قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وقوله جل وعلا: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، وفي أن الإنسان مثلا لو كان خالقا لفعله لكان فاعلا لكل ما أراد، وفي أنه لو كان خالقا له لكان عالما بكيفيته وكميته وتفصيله قبل أن يخلقه، ولا يدخل الله في شيء من قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لأن دخوله يستلزم الحدوث، والمعدوم لا فعل له، ونافقوا بذلك ولولا تأويلهم لأشركوا ومن قال بذلك لقصور عقله لا بقطع عذر مخالفه مثل من يرى أن ريح المروحة خلق له لم يكفر نفاقا ولا شركا، ودخل اعتقاده في الخطأ المرفوع عما قاله بعض محققي أصحابنا – أي الإباضية – والطلب من نفس المقدور فلا ينافي القدر.

نقلا عن كتابه: الذهب الخالص ص 22.

عرض وتحليل مسألة القدر:

من خلال هذه النصوص، يظهر لنا جليا أن مشكلة القدر ارتبطت دوما بمصير الإنسان عامة، والمسلم خاصة. وهذه المشكلة الفلسفية الميتافزيقية لا تزال مطروحة في المذاهب الفكرية المعاصرة إلى حد الساعة.

أما بالنسبة للمسلمين الأوائل اعتبروا الدين هو الإيمان والإيمان هو الدين، واعتقدوا بالقدر خيره وشره دون الخوض في الآيات القرآنية المتشابهة التي تتناول حرية الإنسان، هل الإنسان حر في قضاء الله وقدره؟ أم مقيد به؟

أما في العصر الأموي والعباسي فما بعدهما، قد ظهر اتجاهان متعارضان لهذه المشكلة فهما:

1. أن الإنسان مسير لا مخير إزاء قدرة الله المطلقة الخالقة لكل شيء وتزعم هذه الفكرة جهم بن صفوان المتوفى 128هـ، ودعم رأيه بالأدلة النقلية كقول الله عز وجل ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ الصافات: 96 ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ الرعد: 16.

2. الاتجاه القدري الذي تزعمه معبد الجهني المتوفى سنة 80هـ، ومدرسة الاعتزال التي تزعمها واصل بن عطاء، إن هذا المذهب اعتمد على العقل حين أكد أن الإنسان هو الخالق لأفعاله، بدليل إذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن، ومن أنكر ذلك جحد الضرورة، ثم دعم رأيه بالأدلة النقلية كقول الله عزل وجل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ المدثر: 38 وقال الله عز وجل في آية أخرى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ الكهف: 28.

أما النصوص التي بسطت هنا تعارض المذهب القدري الذي يدعي أن الإنسان هو الخالق لأفعاله ومعنى هذا أن الله ظالم لعباده – تعالى الله عن ذلك – وتعارض كذلك رأي الجبرية حين تنفي من الإنسان كل مسؤولية وأعطت مفهومها أصيلا يتمثل في القدرة المرتبطة بالمقدور بمعنى الكسب أي أن للإنسان قدرة على الفعل والله عز وجل هو الذي خلق فينا القدرة ولا يحاسبنا على هذه القدرة، بل إن الحساب ينصب على الأعمال التي أكتسبها الإنسان اكتسابا عن طريق جوارحه وإرادته الحرة فالكسب إذن عند الإباضية يقوم مقام الخلق عند القدرية ومدرسة الاعتزال كالمسلم الذي صام رمضان – فأكل يوما متعمدا فإن ظاهرة الجوع والعطش أمر جبري من عند الله عز وجل لأننا لا يمكن أن نزيل دوافعنا الفطرية، أما التعمد في الأكل وعدم ضبط الدوافع بإرادة قوية فأمر مكتسب من الإنسان ذاته، إذن ليس هناك تعارض بين إرادة الله عز وجل وعمله الأزلي القديم مسبقا وبين كسب الإنسان. لقد صدق أبو عبيدة حين قال: إن الله يعذب على المقدور لا على القدر – فرأي الإباضية يعرض صراحة الاتجاه القدري.

أما بالنسبة إلى الأشعرية وابن رشد قد سلكوا نفس المسلك الذي سلكته الإباضية.

والخلاصة العامة: أننا نلاحظ أن النصوص من ناحية المضمون أي الجوهر تسعى أن تبين أن المؤمن الصالح عليه أن يعتقد بالقدر خيره وشره أنه من الله ولن يبلغ حقيقة الإيمان حتى يؤمن بذلك. مع العمل الدائم وعدم التوكل اعتمادا على سيرة الرسول ﷺ وأقواله حين قال أعرابي للرسول ﷺ أرسل ناقتي وأتوكل على الله؟ قال: "بل أعقلها وتوكل".

-بتصرف-

المصدر: كتاب دراسات إسلامية في الأصول الإباضية. تأليف: بكير بن سعيد أعوشت. ص59-66.

شاركنا بتعليقك