إسهامات

ظاهرة التدين هي استجابة لضرورة دينية وبيولوجية وعاطفية وعقلية، لا يمكن الاستغناء عنها لإثبات إنسانية الإنسان المتطور المتحضر الذي يتحلى بالقيم والأخلاق الراقية التي تؤهله إلى أن يكون سيد المخلوقات، فالتدين الحق يجعله يلتزم بالتوفيق بين العلاقات الثلاث الضرورية: علاقته بخالقه، وعلاقته بالكون، وعلاقته بنفسه، بطريقة منظمة ومنسجمة ومتوازنة. فالاستعانة بالله واستمداد العون منه ضرورة لنجاح الإنسان في مهمته في الأرض، وهي بناء الحضارة والعمران وعبادة الله تعالى.

فإذا كنا قد اتفقنا على أن التدين ضرورة طبيعية وهامة لكل إنسان، إذن فما شكل التدين المطلوب لتحقيق هذه الغاية؟ وما علاقة ذلك بالفن والعلم؟ وكيف يمكن أن نؤصل لقيام الإنسان بمهمة الاستخلاف كما أرادها الله تعالى لعباده؟

الفن والعلم:

الفن والعلم مدلولان يحققان غاية واحدة وهي بناء حضارة الإنسان، والإيمان هو الموجه لمسارهما وتحقيق غايتهما. فالفن هو تلك المهارات الإنسانية التي يستوحي معالمها من الكون الجميل الذي أودعه الخالق عز وجل بديع السماوات والأرض، ويحاول الإنسان أن يسقطهما على حياته لتبدو جميلة ورائعة، حيث يتحقق التكامل المعرفي والفني والديني في حياته وهو مراد الله تعالى من الإنسان.

فالفنون التي ظهرت في الحضارة الإسلامية قدمت نمطًا جديدًا للإنسانية، حيث ارتبطت بالقيم الأخلاقية والدينية فظهر الإبداع في المصحف والمسجد والبنايات والأواني وغيرها، كما ارتبط الفن بالعلوم والمعارف على أساس أن الإبداع العلمي يبدأ برؤية فنية للظاهرة الطبيعية والفيزيائية والرياضية، فالعلم والفن لهما المنطلق نفسه وهو التفكير في الكون الجميل، والله تعالى هو منطلق الجمال، وهو خالق الكون، فالفنان يحب أن يتمثل صفات الخالق المبدع، فالفن يرتبط بالتفكير والإبداع والاتقان في الصنعة، وهكذا ينبغي أن تكون حياة الإنسان.

فالإسلام ينظر للفن على أنه من مقاصد العلم والدين، فالفن هو التطبيق العملي للنظريات العلمية بالوسائل التي تحققها، وهو يطلق على ما يساوي الصنعة والمهارة. والفنون لازمة للإنسان لأنها ضرورة لحياة الإنسان من حيث هو إنسان، فعمر الفن يوشك أن يكون هو عمر الإنسان، يلازمه منذ أن كان يعلو ويهبط معه وبه.

علاقة الدين بالفن:

علاقة الدين بالفن كعلاقة العقل بالروح، كلاهما يحقق لنا قاسمًا مشتركًا نستدل به على الوجود وعلى جمالية الكون البديع. فالفن هو المعيار الذي نقوي به ملكة الإدراك والتميز، ونعرف به المعنى الحقيقي لهذا الوجود ومقاصده التي تصب في الدين، وإذا غاب هذا المعيار في حس الإنسان، غاب عنه المعنى الجمالي للحياة وكذلك المعنى الصحيح لمقاصد الدين، وحدث قصور في الفهم وسطحية في التدين، وقد يؤدي ذلك إلى التطرف والغلو والجفاء المعرفي والحضاري والفكري للمسلم الذي لا يولي اهتمامًا لهذا المعيار الهام في حياة الإنسان.

والدين الإسلامي لم يأت ليحرم الفن، وإنما أراد أن يبعد عنه المظاهر التي تخالف العقيدة الإسلامية وتنافي الأخلاق وما هو خارج عن المنهج؛ ولذلك نجد المساجد مزخرفة ومزينة بالآيات القرآنية بأشكال جميلة تضفي على بيوت الله شيئًا من الجمال الذي يريح المتعبد، لكن لا نجد فيها صورًا لأشكال الإنسان أو الحيوان أو تماثيل كالتي نجدها في المعابد والصوامع والكنائس.

تعلم الفنون يعمل على الترقي في فهم حقيقة الدين، وبناء مقومات الحضارة بناءً رصينًا يساير تطلع الإنسانية لها، وبالتالي تحض بالقبول والإقبال عليها، وتعمل على تقوية ملكة الفهم الواعي للوجود الذي تتفاعل فيه الإنسانية مهما اختلفت وتنوعت.

والنظرة الفنية للكون نابعة من القرآن الكريم الذي يصور لنا الوجود تصويرًا فنيًّا وجماليًّا، ويدعو إلى التفكر فيه من أجل الوقوف على إبداع الخالق في خلقه، قال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ النحل: 6.

وهذه الصّور الجمالية في الكون البديع تردّدت في عدّة آيات، منها قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ الملك: 3-5، فهذا التناسقُ في الخَلق، والإبداع في الصنع، والتنوع في الألوان، يعد مظهرًا أصيلاً للجمال، وتزيين السماء بالنجوم يجعل الجمال هدفًا في الخلق.

غياب الفن عن الساحة الإسلامية اليوم:

غياب الفن عن الساحة الإسلامية، أدى إلى غياب الرؤية الواضحة للحياة ولفهم الدين كما فهمه الأوائل الذين بنوا حضارة من أعظم الحضارات في العالم، وغيابه أدى إلى التوقف عن النمو والتطور حيث استوى الوجود والعدم. فالأمة الإسلامية اليوم لا وجود لها على المستوى العلمي والمعرفي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، سوى كونها أمة مستهلكة لما ينتجه الآخر.

فنلاحظ في واقع المجتمع الإسلامي غياب شبه كلي للفن في الحياة، إما بسبب الفتاوى التي تحرم الفن والتي تصدر من بعض المفتين الذين يجهلون حقيقة الفن ونظرة الدين للفن، وإما عدم اهتمام المجتمع الإسلامي بهذا المعيار الهام في حياته، وإما لأسباب أخرى يفترض البحث عنها ومعالجتها.

فغياب الفنون هو غياب للملكات والإبداع والرقي والنهضة وتأسيس للعجز، وهذا ما نشاهده في المباني التي نشيدها في أيامنا هذه، حيث تفتقد للإتقان والذوق الفني الرفيع، وأكثر من هذا أنها تفتقد حتى إلى المعايير التقنية والعلمية للمواد المصنوعة منها، مما يفقدها الجودة والنوعية، وبالتالي تنعكس هذه الحالة على الجانب النفسي والعقلي والفكري وتدهور الحالة الاقتصادية والثقافية وغيرها. ومعنى هذا أن عدم الاهتمام بالجانب الفني يؤدي إلى انهيار كل الجوانب الأخرى من حياة الإنسان، وبالتالي نصل إلى حالة من التخلف والتأخر الحضاري والمعرفي.

-بتصرف-

المصدر: مجلة حراء

شاركنا بتعليقك