إسهامات

نعرفُ أنَّ منطقة "وادي مزاب" بدأت تشهد التنظيم الحضاري، والهيكلة الاجتماعية، وتأسيس المؤسّسات الدينية والعرفية والسياسية، في بداية القرن الخامس الهجري، عندما تطوَّر نظام الحلقات الذي وضعه الشيخ أبو عبد الله محمَّد بن بكر الفرسطائي (رحمه الله) ليصبح العزَّابة وهيئات العشائر والأعيان، هي التي تسيِّر الحياة العامَّة للمجتمع المزابي كلِّه.

ومع القرن الخامس العشر الميلادي بدأ المزابيون يغادرون وطنهم بحثا عن القوت واكتساب المال، تحت ضغط الجفاف الذي تطول فتراته أحيانا، فتجفَّ الآبار، وتشحَّ الأرض عن العطاء، ويقلَّ القوت؛ وأمام هذا الوضع وبداية مغادرة الوطن من طرف الرجال بحثا عن العمل والرزق هنا وهناك، تخوَّف أهل الحلِّ والعقد في المجتمع أن يتحوَّل الأمر إلى هجرة جماعية تخلي المنطقة من سكَّانها، خاصَّة وأنَّهم حديثو عهدٍ بخلُّو مناطقَ كانوا فيها، آخرها "سدراتة".

"قد تروق الحياة في ديار الغربة لمن نجحت أعمالهم فيها، فيتَّخذون الإقامة الدائمة ويهجرون وطنهم بالتدريج، ويكثر عدد هذا النوع من الناس حتَّى يصبح الاغتراب -ثمَّ اتخاذ وسائل الإقامة- كأنَّها معاول تخريب للوطن ولن يمضي على تلك الحال وقت طويل حتَّى يصبح وطنهم خبرا من أخبار التاريخ، أو قصَّة من قصص الأسمار. كما وقع بالفعل لبلدان كثيرة وأقرب مثل على ذلك مدينة "سدراتة" " الاباضية في الجزائر، علي يحي معمَّر، ص 507.

قلتُ، خوفا من أن يصبح مزاب قاعا صفصفا حاليا من ساكنيه، إذا استحسن واستلذَّ المغادرون العيش حيث يعملون، فيعجبهم الاستقرار هنا، والاستقرار في أيِّ مكان يستدعي أن اصطحاب زوجته إلى هناك، فإن فعل ونقل زوجته وذرِّيته قد لا يفكِّر في العودة إلى مسقط رأسه أغلان.

ففكَّر أهل الحلِّ والعقد أمام هذا الوضع أن يمنعوا المرأة من السفر إلى خارج حوزة مزاب -إلاَّ للحجِّ أو للعلاج ضرورة- سواء كانت زوجة، أو أمًّا، أو بنتا، أو أختا، لأسباب عديدة، أهمُّها:

  •  لتكون سببا في ربطه بوطنه ومسقط رأسه، وأسرته ومجتمعه، فيعود إلى زوجته وأمِّه وأولاده شوقا وحبًّا.
  • مخافةَ تعرُّضها إلى أخطار السفر، وما أكثرها وما أصعبها في ذلك العهد خصوصا، لبدائية وسائل النقل والسفر، إضافة إلى أهوال الطريق ومظالم قطَّاع الطرق وفسادهم.
  • نأيًا بها عن الاقامات التي لا تليق بكرامة المرأة والأسرة المزابية، خاصَّة أنَّ الرجل المزابي آنذاك كان يسافر ليكسب المالَ من عرق جبينه، فيكون مسكنه في محلِّ صاحب العمل مع عدد من العمَّال، فلا يمكن أن يكون سكنا لعائلاتهم وذرِّياتهم.
  • منح فرصة للرجل المغترب ليتمكَّن من جمع المال وتوفيره، حتَّى يعود إلى وطنه وأسرته مليء الوطاب، ومن جهة أخرى يوفِّر النظام الاجتماعي في مزاب رعايةً كاملة لأسرة المسافر، فذاك يسافر مطمئنًّا على أسرته، وهذه تطمئنُّ على نفسها في وسط مجتمعها وبيئتها.

ولم تذكر لنا الوثائق ولا المؤرِّخون تاريخ اتخاذ هذا القرار، ولا الجهة التي أصدرته، غير أنَّنا متأكِّدون أن هذا القيد بقي ساريا في المجتمع إلى الأربعينيات من القرن الماضي، عندما رفعه الشيخ إبراهيم بن عمر بيُّوض (رحمه الله).

وذلك عندما وجد الشيخ بيُّوض أن الظروف قد تغيَّرت وتطوَّرت وسائل النقل والسفر، وأمنت الطرق، وتحسَّنت الظروف السكنية للمزابيين حيث يتواجدون من أجل العمل، مع توفُّر نظامٍ تعليميٍّ هناك كما في مزاب، يحافظ على شخصيتهم وثوابتهم ودينهم ووطنيتهم، ويحميهم من الذوبان في حياة العواصم والمدن الكبيرة.

المصدر: مدونة نور القلم

شاركنا بتعليقك