إسهامات

لما كانت المرأة هي محور الارتكاز للمجتمع المزابي والشخصية الأساسية في خلية الأسرة أحيط كيانها بسياج حرية مقيدة تكفل لها الحصانة الدينية والخلقية وبقاء جوهر الأسرة نقيا في بيئة نقية وحصن منيع من الدين والأخلاق لا تتسرب إليها الحريات المطلقة ومیوعة التمدن وانحلاله وتفسخه المستمدة من حريات الغرب المطلقة المتخبطة في دجاها البعيدة عن حريات الإسلام وحجاها.

فحرية المرأة المزابية وهي في دارها الواسعة تحرسها الشمس المشرقة والنجوم المتألقة وفي بستانها بين النخيل والأشجار والظلال الوارفة بين الرمال الذهبية والجبال الحمراء لا يكاد يتصورها عشاق الحرية وعبادها في العالم المتمدن في أسرارها النقية الشريفة. صوت الدين والتذكير لا ينقطع عن أذنها، والوازع الديني قوي مسيطر عليها هذا في الأغلب طبعا.

هذا بخلاف المرأة في الأمم التي تفشى فيها السفور والتكشف، فهي تشارك الرجل بحكم الاختلاط في تحمل أثقال مرافق الحياة المادية كما تشارك في سوق العقول وسوق البقر لا تهمها سلطتها في البيت ومسؤوليتها السامية العظمى في نطاق الأسرة والرابطة الزوجية.

رعاية لأهمية هذا الجانب الحساس في هيكل المجتمع المسلم، اتخذ المزابيون في القرون السالفة منذ استقرارهم بوادي مزاب قرارات واتفاقات في مجلس الشيخ أبي عبد الرحمن الكرثي تمنع المرأة من السفر إلى خارج المدن السبع بوادي مزاب وآخر اتفاق يرجع تاريخه إلى سنة 1928م يمنع بشدة وبعقوبة البراءة والتغريم كل من تعدی فسافر بالمرأة إلى خارج مزاب لما يترتب على ذلك من أضرار روحية ومعنوية يتعذر تلافيها حيث تتعرض للإهمال أحيانا ويضعف وازعها الديني بل تنقطع عن تعاليم الإسلام فالعقل إذا لم يجد ما يحركه للصلاح فسد وجمد کالجمر إذا لم يجد ما يحركه خمد.

اتخذوا ذلك الإجراء مخافة أن تدور الأيام دورتها وتدول دول وتقوم أخرى وتلتوي المفاهيم وتطيش سهام الآراء فتصطدم المرأة في مناهجها بفلسفات سمان وعجاف تسوَّغ بحكم الاختلاط للذئاب والظباء الرعي معا في مروج ألف للعهود الأخيرة الزاخرة بالعلوم وتصطدم العقول بالمادية الرعناء فتصدر عن مفاهیم العصر والبيئة فتسوغ التكشف والحسور ذاهبة وراء حدود الحريات فتأخذ بالأسر النبيلة والمحور الذي هو المرأة في خلاياها في المجتمع الإسلامي فترمي برمتها في ضلال.

كما يشاهد ذلك كل منصف وجحود في القرن العشرين الذي هو عملاق القرون في العلم والحضارة وفي الحيوانية السليطة التي تعتبر تقدما ومدنية وقيم الدين والعقل تخلفا ورجعية، فأصبح العالم من أقصاه إلى أقصاه يديره محرك النفاق الاجتماعي لا يتماسك أمام ذلك التيار الذي يجرفه إلى الإلحاد بعنف، وقد أفلت من يده زمام التعقل والاتزان فأمسى شقيا بعلمه، شقيا بأنثاه، شقيا بدنياه. قصارى جهده أن يحظى بجرعة من كأس السعادة الموهومة يختلسها من يد الدهر اختلاسا. ولما يدركها فإذا حظي بها كان أولها ومضة من آمال وآخرها نكد ووبال.

وللمرأة المزابية نصيبها في ذلك الانقلاب الخلقي في دنيا الناس، فهي الآن تسافر لا لضرورة قصوى ملحة كعلاج مع ذي محرم لها فتعود بعدها إلى وكرها موفورة الكرامة بل تغادر وطنها متى عنَّ لها ذلك غير آبهة بما اتخذه الأوائل والأجداد في حقها مما يحفظ كرامتها وأسرارها، فتغوص في حياة كلها تبذل وإسفاف في بؤرات المدنية المنحلة فتضعف فيها تلك الروح المعنوية التي نعمت بها منذ عهد بعيد.

هذا ما توقعه الأسلاف الصالحون وتخوفوا من الوقوع في رواسبه وآفاته المادية والمعنوية. فأصدروا عن تجربة وحكمة واتخذوا تلك الاتفاقيات في صلاح المرأة. هذا سعد زغلول باشا يقول لا يفوتنكم أن تحتجوا في أمر صغير عسی أن يكون له في المستقبل أمر خطير. فنظرهم البعيد الصائب يتجلى في النقط التالية:

1. صون كرامة المرأة المسلمة من إراقة ماء وجهها على عتبات الحياة الصاخبة بالتكشف في الأرصفة والمصالح العمومية.

2. صونها عن مشاهدة الكاسيات العاريات صباح مساء، فتتمكن منها العادة وتحاول ممارسة ما زین لها مختارة لا مجبرة. فتصبح باردة الأنوثة سليطة اللسان قحة الوجه لا ترد كف لامس ولا تتجافي عن تخاوص هامز وهامس.

3. بُعدها عن مقعدها في بيت الله في أوقات التلاوة المباركة من الذكر الحكيم، تملؤ قلبها إيمانا يتمكن ويتجدد بتجدد الزمان، وعن سماع صوت الدين الحر فيها من المرشدين الهادين المهتدين، بلا أجر احتسابا لوجه الله الكريم، فيكون له أثره البليغ لنبالة المقصد في الامتثال والانزجار الذي لا تجده فيما تسمعه من أبواق الإذاعة المرئية والمسموعة في حصص في دقائق محدودة بدراهم معدودة يتخللها أغاني وفتون ومجون فينسي بعضها بعضا قد لا تلقي غالبا آذانا صاغية بل هي عنها لاهية لاغية.

4. ذوبان الأسرة بتشتت أفرادها والتزوج بغير الاكفاء أحيانا فيؤدي ذلك بالطبع إلى الجهل بالأنساب فيتقطع حبل التوارث الشرعي وصلات القرابة التي أمر الله بها أن توصل.

5. وهي أخطرها، تنشئة الأولاد وبالأخص البنات على الانحراف الخلقي والاستخفاف بأوامر الدين ونواهيه لأنهم لا يجدون مغذيات الإيمان والعقيدة في محيطهم المائع، بل لا يجدون غير المغريات بالرذيلة المهذبة ودواعي الإباحية بعداء عن صوت المسجد مبعث النور النافذ إلى القلوب فيتركز فيها بقوة الإخلاص.

بعد هذه المستحدثات بحكم الأوضاع لعل صوت الضمير الحر يهيب بدعاة الأمة وهداتها المخلصين أن يتخذوا حلا وسطا شريفا مقيدا لسفر المرأة محترما من الجميع إلا في الضرورات الملحة إبقاء على البقية الباقية من الحصانة.

ذلك في مجاراة متطلبات العصر الذي أصبح فيه الإنسان يری بالعين المجردة كل ما يجري على سطح هذا الكوكب في نظرات، ويحيط علما بما تحويه أدمغته في لحظات والتنقل بين قاراته يتم في بعض الساعات وما ذلك على الله بعزيز ولله في خلقه شؤون.

ومما يجدر ذكره بكل تقدير واعتزاز عن كيان المرأة الإباضية المزابية أنها ليست حلس بيتها ولا دمية زوجها ولا أم مثواها كما يعبرون، بل إنها معتزة بحرية مقيدة شريفة تفرضها عليها روحانية الدين الاسلامي وتعاليمه وحدوده فهي تترفع عن مجاراة المتبذلات الجوالات على السواحل والأرصفة والمصالح العمومية يهامسن هذا ويغازلن ذلك ويخاذن ذاك فيصبحن من لحوم البحر ونفايات البر في أنوثة باردة منحرفة بالابتذال والاختلاط في جو خانق من الغرور، وادعاء التقدم والتحرر من الرجعيات والرجعيات في الحقيقة هي ما عليها في جاهلية القرن العشرين.

فالمرأة الإباضية لها من حصانتها بين جنوبها شعور سام بمسؤولياتها في المجتمع فسترها وعدم اختلاطها بالرجل لا يمنعها من ممارسة تلك المسؤوليات في ثقة من نفسها ورضاء عن ضميرها فمواقفها في الحركات الوطنية وفي حرب التحرير الجزائرية ليست مجهولة، إنها كانت بجنب زوجها مستودع أسراره ومبعث حماسه مع ما تقوم به من أعمال نضالية واكتشاف العيون والعملاء وأحيانا تقوم مع زوجها بتمريض الجرحى من الجنود وإخفائهم إلى أن يتمكنوا من اللحاق بمراكزهم.

وكان الكثير من النساء الإباضيات عبر التاريخ مقامات عتيدة في العلم والفقه الاسلامي وفي الرأي والسياسة والحرب مع صيانة ماء وجوههن أن يراق في تلك السبل الشائكة العريضة.

-بتصرف-

المصدر: كتاب نبذة من حياة الميزابيين الدينية والسياسية والعلمية من سنة 1505م إلى 1962م، حمو محمد عيسى النوري، ص 178/181.

شاركنا بتعليقك