إسهامات

صَحيح أنَّه لا يُمكِن لإنسان أن يحكُم على إنسانٍ مِثلِه بالسَّعادَة أو الشَّقاء الأَبدي مَهما عَهِد مِنه مِن خَير أو شَر؛ سَواء أَكاَن حيَّا يُرزَق أو قَد أفضَى إلى ربِّه؛ وهذا ما يُسمَّى في عُرف بعض كُتب المَذاهب بالحُكم على الأَعيان؛ لأنَّ الأَمر بُكلِّ بساطَة يتوقَّف على الاطِّلاعِ على سَريرَة ذَلك الإنسان وما يُكنُّه صَدرُه؛ ولا يتسنَّى ذَلِك على وَجه الحَقيقَة إلا للباري عزَّ وجل الذي يُخرِج الخَبء في السماوات والأرض!

المظاهر في الدنيا لا تنبئك بالمصير في الآخرة

فقَد يغُرُّك مَظهر إنسان مُتنسِّك، تُظنُّ أنَّه على حظ وافِر مِن العبادَة والاستِقامَة؛ ولكنَّه في حَقيقَة الأَمر خبيثُ النَّفس والعياذُ بالله؛ وقَد تَعهَد مِن إنسان مَعصيَة وسُوءَ حالٍ ثُمَّ يبلُغك نبأ مَوتِه فتُسارِع إلى شتمِه ولَعنِه، والدُّعاءِ عَليه بسوء المُنقَلب بناءً على عِلمِك السَّابِقِ بِه؛ ولكنَّه في الواقِع ونَفس الأَمر رضيٌّ مَرضيٌّ عِندَ خالقه عزَّ وجل بعدَ أن تابَ وأنابَ وأصلَح ولَم يَصِلكَ شَيء مِن ذَلِك!

فالمَخرَج مِن هذا المُنزَلَق العَقدي الخَطير هُو أن نُزكِّيَ فقَط وفقَط مَن زُكِّيَ مِن قبل الباري سُبحانَه في كِتابِه بنص قَطعي كأنبياء الله ورُسله عليهم السَّلام؛ ونحكُم بِهلاكِ من حكَم الله بشقائِه نصًّا في كِتابِه؛ كفرعَون وأبي لَهب وقارون؛ وأمَّا مَن عداهُم فالوُقوف في الحُكم على مصيرِهم أسلَم وأبعَد عن التَّألِّي على الله عزَّ وجل. لأنَّ ذَلك غَيب، ولا يَعلَم من في السماوات والأرض الغَيب إلا الله!

الأحكام العامة يجب الاعتقاد بها

بيدَ أنَّه في نَفسِ الوَقت لابُدَّ مِن أن تكُون لَنا أحكامٌ واضِحَة مُفصَّلة قاطِعَة عَن الحالات العامَّة التي لا يَخلُو البَشر مِن أن يكُونوا في إحداها؛ وأقصِد أكثَر ما يتعلَّقُ مِنها بالمَصير السَّرمدي الأَبدي؛ إمَّا في جنَّة أو في نار! فنقُول مَثلا: كُلُّ مَن ماتَ تقيا؛ وجاءَ ربَّه بِقلب سَليم خلي مِن الشِّرك (بأنواعِه سيَما الخفيَّة مِنها)، وبعَمل خالِص غَير مَشُوب بُظلم ولا مَعصيَة؛ فهُو مِن أصحاب الجنَّة قَطعا لا نِقاشَ في القضيَّة! وكُلُّ مَن ماتَ مُصِرّا غَير تائب، مُتماديا غَيرَ مُقلِع؛ يأتي ربَّه بِعَمل خَليط؛ فهُو مِن أصحابِ السَّعير خالِدا مُخلَّدا؛ لا تَنفعُه مَعذرتُه ولا تُقبَل مِنه شَفاعَة، ولا تَزر عَنه وازِرة شَيئا مِن أحمالِه قَولا واحِدا لا مَجال للرَّأي فيه! هكذا على وَجه التَّجريد والعُموم مِن غَير أن نحكُم على فَرد بِعينِه بالجنَّة ولَو قُبضَت رُوحُه عِند بابِ الكَعبة! ومِن غيرِ أن نحكُم على آخَر بالنَّار ولَو جاءَه مَلك المَوت وزُجاجَة الخَمر في يَدِه، أو كانَ نائِما في فراش مُومِسَة!

أمَّا أن نقُول بأنَّ مَن ماتَ عاصِيا غَير تائِب (من عُصاة المُسلمين)؛ مُصرَّا على جرائره، راكبا أنفَه غَير منيب ولا مُصلِح؛ فهُو تَحتَ المَشيئة إن شاءَ الله غفَر له وإن شاءَ عذَّبَه؛ هكذا بإطلاق الأَمر على عواهِنه مِن غَير ضَبط ولا قَيد؛ فهذا سَراب آخَر يُضافُ إلى قائِمة الأَوهام التي يتشبَّثُ بِها كَثيرُ مِن العُصاة المُستَحْلين لما هُم فيه مُقيمُون، وللضَّلال الذي هُم فيه يعمهُون.

هذا المُعتَقَد الفاسِد إضافَة إلى أنَّه جَهل مُطبِق بمَعاني وحقائِق كِتاب الله تَعالى، ودليل واضِح على قلَّة صَبر في اتِّباعِ بيِّناتِه؛ فيه اتِّهام صَارِخ للعَليم الخَبير بِأنَّه لَم يُبِن ولَم يُفصِح عَن قَوانين التَّعامُل مَع عبادِه في اليَوم الآخِر، وتَرك الأَمر غامِضا مُلتبسا مَفتُوحا للظُّنون والتَّخمينات! ضاربين عرض الحائِط جَمهرَة مِن الآيات تَصِف القرآن بأنَّه "مُبين"، وبأنَّه لَم يُفرَّط فيه مِن شَيء، وبأنَّ فيه تَفصيلَ كُلِّ شَيء؛ سيَما في قضايا خَطيرَة مصيريَّة يعظُمُ أمرُها!

بين المشيئة والإرادة

المَشيئَة كَما يُعرِّفُونَها هِي إرادَة + أخذ بالأَسباب؛ فالإرادَة هِي القَصد والهَدف والغايَة تُضافُ إليها عمليَّة التَّفاعُل مَع عالَم الأشياء بُغيَة تَحقيقِ تِلك الإرادَة.

فالإنسان لكَونِه مُكلَّفا مُختارا غَير مُجبَر؛ أتاحَ الله لَه حُريّة أن يُريدَ أيَّ شَيء ويشاؤُه (أي يتَّخذُ الخُطوات الماديَّة اللازمَة لتَحقيقِه)؛ ولَكن مشيئته في النِّهايَة لا تكُون إلاَّ بالله تَعالى (خالِق الأَسباب)، وليسَ الإنسان بِخالِق لشَيء مِن أفعالِه. ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبـِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْـيُومِنْ وَّمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرِ الكهف: 29.

يَعني إذا اتَّجهَت إرادَة الإنسان نَحو الشُّكر أو نَحو الكُفر، واتَّخذَ الأسباب لتَحقيق مُرادِه سهَّل الله لَه ما يُريد، وسخَّر الأَسباب حتَّت تكُون بينَ يَديه تُحقِّقُ لَه مُرادَه؛ وهذا مَعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلآَّ أَنْ يَّشَآءَ اللَّهُ الإنسان: 30؛ لا تَعني إجبارا على الطَّاعَة ولا المَعصيَة بِحال؛ فالإنسان مَهدي إلى سُبل الضَّلاَلَة والرَّشاد؛ فعلى أيِّها استَقرت وِجهتُه وطَّأ الله لَه سَبيلَ ما أراد! هذا في حَقل الهُدى والضَّلال!

أمَّا في أمُور الله التَّكوينيَّة المُرتَبطَة بِحكمَتِه المُطلَقَة؛ فالله يفعَل ما يشاء مِن غَير اعتِبار لإرادَة الإنسان البتَّة؛ كَما يقُول تَعالى مَثلا: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنـَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا الإسراء: 18.

نُلاحِظ في هذه الآيَة الدِّقَّة الإلهيَّة في استِعمال فِعل "الإرادَة" لا المَشيئَة في مَسألة التَّعامُل مَع أشياءِ الدُّنيا؛ لأنَّ الإنسان الضَّعيف لا يَملِكُ ذَرَّة في هذا الكَون حتَّى يَنفَع نَفسَه أو يَجلب الضَّرر لأَحد! بل الله تَعالى هُو الضَّار النَّافع؛ القابض الباسِط سُبحانَه! فلَو قال تَعالى: (من كان يشاءُ العاجِلة) لاختلَّ النَّظم مِن أساسِه؛ ولَوقع التَّناقُض الذي يستَحيلُ على كِتاب لا يأتيه الباطِل من بين يديه ولا مِن خَلفه!

بين مشيئة أهل الجنة وإرادة أهل النار

.. هذا في الحَياة الدُّنيا! وأمَّا في الآخِرة فأصحابُ الجنَّة إرادتُهم مَشيئَة؛ وأمَّا أصحابُ الجحيم فَليسَ لَهُم إلاَّ إرادَة، ولا مَشيئَة لَهُم!

لا تقَع عيناكَ على آيَة تقُول أنَّ أصحابَ الجنَّة " يُريدون" لأنَّ أيَّة إرادَة لَهُم مُحقَّقَة قَطعا؛ ولا تَجدُ آيَة تنسَب مشيئة لأصحاب النِّيران؛ لأنَّ الباري لا يُحقِّقُ لَهُم طلبا أبدا؛ وكُلُّ ما أرادَه الباري عزَّ وجل لَهُم، فهُوَ عكسُ ما يُريدونَه تَماما لأنفُسِهم نِكايَة بِهم وتبكيتا! لنتأمَّل هذه الآيات حتَّى نُبصِر هذه الحَقيقَة.

﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىا رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولاً الفرقان: 16.

﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌق: 35.

﴿وَأَمَّا الذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَنْ يَّخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ السجدة: 20.

﴿يُّرِيدُونَ أَنْ يَّخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهاَ وَلَهُم عَذَابٌ مُّقِيمٌ المائدة: 37.

إذن؛ فالإرادَة هي مُجرَّد القَصد إلى الشَّيء؛ وأمَّا المَشيئة فهُو ذَاك + تفاعُل مَع الأسباب الخارجيَّة.

-بتصرف-

المصدر: موقع أهل القرآن

شاركنا بتعليقك