إسهامات

بجامعة أبي بكر بَلْقايد في تِلِمْسان ناقش الباحث فتحي بن حمو دادي بابا بتاريخ 01/06/2016 رسالته للدكتوراه بعنوان: " منهج الشيخ اطْفيَّش في التعامل مع السنة النبوية "، تحت إشراف الدكتور: خير الدين سيب ونال عليها درجة الشرف الأولى. في سياق محلي وإسلامي مليء بالجدل حول النصوص التأسيسية للدين جاءت رسالة الباحث الجزائري فتحي بن حمّو دادي بابا ليؤسس لبنة مهمة في صرح الفهم التكاملي للإسلام، فقدّم مقاربة جادة ونادرة لموضوع الحديث عند أحد علماء إباضية المغرب وهو الشيخ امْحَمَّد بن يوسف اطفيّش الملقّب بالقُطب، ذلك ما تطلّب من الباحث الغوص في الأعمال الموسوعية التي قدّمها الشيخ في علوم شتى خاصة الشرعية منها لاستخراج مكنوناته الحديثية وعرضها بطريقة جلية واضحة على غير سابق مثال، وهو ما سنعرض له فيما يلي: انطلق البحث من سؤال رئيس هو: هل استقلّ الشيخ اطفيّش بمنهج خاص في التعامل مع السنة النبوية وما هي مميزاته؟ تفرّعت عنه أسئلة ثلاث:

1. ما مدى اهتمام اطفيّش بالسنّة واستيعابه لقواعد علوم الحديث وتمكّنه منها؟

2. ما مصادره في جمع الحديث، وأية قاعدة اتبعها في ذلك؟

3. ما اجتهاده في هذا التعامل؟ وهل استطاع أن يؤسس لمعالم منهجه تعاملا ونقدا؟

1. بدايات الشيخ اطفيّش مع الحديث النبوي:

تميز الشيخ امْحَمَّد بن يوسف اطفيّش بملكة وحس حَدِيثِيَيْن فهو القائل عن نفسه: "وعلى الحديث نور باهر كأنه مُحسٌّ للعالم الناقد، مع أنه معقول لا مُحس، ولا يخفى عليّ والحمد لله ما صحّ منه وما لم يصح"، وفسّر لفظ الحكمة الوارد في الآية ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بأن المقصود به هو السنّة، وفسّر قوله تعالى:﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ بأن طاعة الله في طاعة الرسول، ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي بسؤاله عنه بمعنى الرجوع إلى سنته حين الاختلاف في العبادات، وفي قوله:﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قال الشيخ اطفيّش أعاد الأمر "أطيعوا" إعظاما له، وذلك كله دفعا لتوهم أنه لا يُتَّبَع إلا ما جاء به من القرآن حتى لا يفهم الناس أنه لا يُتَّبَع إلا فيما جاء به من القرآن، وإيذانا بأن له استقلالا عن غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله، ومن عناية الشيخ اطفيّش البالغة بالحديث أنه ندب له الوضوء لقراءته كما هو الأمر مع القرآن، وقوله صلى الله عليه وسلّم: " بلّغوا عني ولو آية " فيفسره الشيخ قائلا فكيف بحديث، حيث الآية هنا جاءت للمبالغة. اهتم مبكّرا بالحديث النبوي فنسخ "كتاب الترتيب لمسند الربيع" لأبي يعقوب يوسف الوارجلاني وعمره لا يتجاوز سن السادسة عشرة، وفي سن الثالثة والثلاثين نسخ كتاب "جامع الشمل من أحاديث النبي" وبعد خمس سنوات كتاب "وفاء الضمانة بأداء الأمانة"، كما كانت له حلقة في بيته خُصِّصَت لمطالعة الحديث بعد صدور كتابه (جامع الشمل) الذي ألّفه قبل 1865م وكان عمره أربع وأربعون سنة والذي طبع في عهده طبعة حجرية بالمطبعة البارونية سنة 1889م، وكان الكتاب مقرر الحلقة ويؤكد ذلك التقييدات الموجودة على نسخ الكتاب من كبار طلبته كالشيخ حمو بابا وموسى الغرداوي والشيخ الحاج سليمان مطهري المليكي. كان له اطلاع واسع على كتب الحديث، ويذكر أنه امتلك كتبا في الحديث استفاد منها فيقول: (وفي الترمذي ولي منه نسخة قديمة مجودة مُحشى عليها)، كما وظهر من إشارته إلى مجموعة من كتب الحديث ليدقق في لفظ الحديث فيقول: (ولم أجد في كتاب من كتب الحديث في نسخة صحيحة الخدش مع الرعاف في حكمهما) فكان يبحث ويدقق في سبيل الوصول إلى المعلومة الصحيحة. وقد أُهديَ الشيخ اطفيش في مكّة كتب الحديث لأنها كانت مفقودة في مُضاب (يقصد مِزاب)، فلما رأى أحد علماء المالكية مُضابيا يقوم بنسخ شرح النيل في مكّة وهو لا يحوي كثيرا من الحديث لذلك أعطاه كتب البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي وأبي داود وغيرها، قال الشيخ اطفيّش: وأنا أحاضر في مكة فانتفعت بتلك الكتب كما انتفعت بصحيح الربيع فجمعت منها (وفاء الضمانة) و(جامع الشمل في حديث خير الرسل)، وهذا من الدلائل على أن الشيخ لم يجد مانعا من الاستفادة من كتب المذاهب الأخرى في الحديث النبوي، فقد قال عنها في إحدى مراسلاته مع مشائخ عُمان بأنها مفيدة مبحوث فيها مشروحة محشى عليها كصحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب ابن حجر. وقال الشيخ اطفيّش: لأن تأخذ مسألة عن فلان عن فلان عن فلان عنه صلى الله عليه وسلم خير من أن تأخذها بدون ذلك، ولأن تأخذ مسألة من كتبهم (المذاهب الأخرى) خير من أن تعمل بجهل، وإن شئت فانظر إلى الشيخ يوسف بن إبراهيم الوارجلاني فإنه قرأ الحديث في الأندلس، وإلى أبي عمار عبد الكافي فإنه قرأ المعقول والكلام في تونس، وإلى أبي ستة فإنه يروي أحاديثهم وتفسيرها. وكان يرى أن الريبة فيما تأتي به المذاهب الأخرى في فن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالارتياب في علوم الآلة من اللغة والمنطق والصرف لكونه جاء أيضا عن طريقهم، فيقول: فكيف تجيز بعضا وتمنع بعضا وما ذلك إلا لعب، ويستطرد: فمن العجيب أن تكون المسألة حقا فتترك لأنها جاءت من مخالف إن هذا غلو. قام الباحث دادي بابا بتعداد ألفين ومائة وثلاث وسبعون (2173) حديثا مع المكرر أوردها الشيخ اطفيّش في (تيسير التفسير)، انتقد منها مائتين وتسعة عشر (219)، ومنها أيضا تسع وستون (69) حديثا قدسيا، والمتواترة اثنان، أما في (شرح النيل) فأورد فيه ثلاثة آلاف وسبعمائة وواحد وخمسون (3751) حديثا مع المكرر انتقد منها مائتين وثلاثون (230)، منها سبع وثلاثون (37) قدسية، واثنان متواتران.

2. فهم الشيخ اطفيّش لمناهج المحدّثين واستيعابه لها:

كانت ميزة الشيخ اطفيّش في الأخذ عن الآخر يقوم على دراسته لمنهج الرواة البخاري ومسلم وأبي داود، فكان يدرس مناهجهم وكان يقرأ أو يطالع المقدّمات التي يضعها الرواة لتحقيقهم الأحاديث، وكان يذكر أن شرط البخاري كان المعاصرة واللُّقَي، وأما شرط مسلم فكان المعاصرة فقط دون اللقي، إذ جاء شرط البخاري أخص من شرط مسلم، ويشير إلى وجود نسخ كثيرة من "صحيح البخاري" فيقول: وفي بعض نسخ البخاري أكبادنا بالموحدات التحتية، إشارة منه إلى نسخ ونساخ للصحيح قد يكون بينها وبينهم اختلاف. ويخلص الباحث دادي بابا إلى أن الشيخ اطفيّش تجاوز من سبقه من علماء مذهبه باعتماد الدليل، حتى أنه قدّم بعض مصادر علماء الإباضية على بعض مبينا دور العالم وما يجب عليه فيقول: والذي درج عليه من مضى تقديم الإيضاح على الديوان (ديوان أبي زكريا) ولست أرى ذلك، بل لزم على المفتي إن وصل درجة الترجيح أن يفتي بما ترجّح عنده بالدليل. المفتي لا يقول برأيه إلا إن مارس كتب الفقه، ومارس كتب الحديث وأحاط بها، فهما وعلما إلا ما شذ، وعرف الناسخ والمنسوخ والمجمل والمفصّل، وتبرّز في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق واللغة، فتلك شروط الافتاء في تعريفه الدقيق عند الشيخ اطفيّش. عناية الشيخ اطْفَيَّش بالسند: يهدف السند إلى حفظ الحديث والأخذ بعين الاعتبار السند والمتن معا في الحكم على الحديث، إذ رأى أن أمة الإسلام خُصّت بالإسناد الذي ينسبه إلى البغدادي والجُبّائي المعتزلي، وأصح الأسانيد عند الشيخ ما رواه الربيع بن حبيب من أبي عبيدة عن جابر عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وذلك لمزيد ورع هذا السند وضبطه. قبوله الرواية عن المذاهب الأخرى: وخروجه من إشكال رواية المبتدع ومن يعدّل ومن يجرح من، فيقول: الواضح أن من كانت بدعته لا تتضمن شركا وكان ورعا في مذهبه جازت روايته إذ كان الدين يسرا لا حرَجا، وقد سهله الشرع فجعل أحكام أهل القبلة واحدة إلا الولاية والبراء شرَطَ لها العدالة وتوسع فيها بما يسمى كل واحد عدل في مذهبه إذ جمعهم دين التوحيد والله أعلم؛ ويزيد: ولأنه تعبدنا بتصديق الراوي العدل ولم يجز أن تنسخ السنة الرواية بفتوى من يجوز عليه الغلط والكذب، واطمأنّ إلى باقي علماء الأمة لتشديدهم في البحث، وكان رأيه أن الراوي يمكن يكون غير عدل في غير العلم عدلا في العلم، ذلك أن المتقدّمين يشتدون في البحث لله لئلا تظهر عليهم جهالة ولا يُقَصّرون مخافة أن يعاب عليهم كلامهم، فكان ذلك من أسباب التحري والتحقيق. موقفه من أحكام علماء الجرح والتعديل: يقول الشيخ اطفيّش: اعلم أنه إذا قلتُ في فلان ضعيف أو متروك أو كذاب أو وضاع أو غير ذلك من الذم فلستُ معتقدا بذلك، لكني أحكي كلاما لغيري اجتمع علي أمران: يجب تصحيح الحديث وتمييزه من الباطل، خوف الغيبة والبهت فاخترت تصحيحه وأن أنبّه بأن ذلك ليس اعتقادا فيّ بل اعتقادُ الأولِ ممن باشر الأمر واجتهد فيه. فضل الصحابة: يرى الشيخ اطفيّش أن الأصل في الصحابة العدالة فيقول: والصحابة عدول لا يُبحث عن عدالتهم في شهادة ولا رواية لما ورد فيهم من المدح، ويقول في سياق آخر: وفضل الصحابة لا يُنكَر، ويقول في تفسير قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ  أنّ حُب الصحابة كالمطبوع في القلب، بعد أن أورد بعض الأحاديث الواردة في الصحابة. موضوع خبر الآحاد: جاء رأي الشيخ اطفيّش موافقا لآراء المذهب الإباضي في مسألة خبر الأحاد فاعتبره ظني الدلالة لا يفيد يقينا في مسائل الاعتقاد، يجب به العمل ولا يحصل به العلم إلا بقرينة -تكون قوية من القرآن- ولا بغيرها خلافا لزاعمي ذلك، ويجوز التعبّد بخبر العدل خلافا للجُبّائي.

3. مفهوم العقل عند الشيخ اطفيّش:

للعقل معنيين عند الشيخ اطفيّش، أولا العقل بواسطة الرُّسُل يكون مطلقا لأنهم يأتون بأحكام تشريعية تنزل بمثابة تعليمات على العقل فيؤدي دوره كاملا، أما إذا لم تكن هناك تشريعات من الرسل فإن الإنسان يستطيع أن يصل إلى وحدانية الله بالعقل فقط، فلو كان العقل وحده حجة مطلقة لما قال الله تعالى: ﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقد بين الشيخ كيف يؤدي العقل دوره السليم فقال: وإن قالوا ليس العقل علة التكليف قلنا بلى، ولكنَّه علّتُه فيما يُلقى إلى العقل من الخطاب لا فيما ينبعث إليه ويهجم عليه، فالعقل ليس وحده حجة، فلو كان كذلك لما اختلف العلماء في التحليل والتحريم ولما تناسخت الشرائع، ولقد فكروا فأنكروا الربوبية وفكروا فقالوا إلهين اثنين، والتفكير عملية عقلية، لكن بدون وحي وبدون رسل الله، وفكروا فقالوا إنه جسم، تعالى الله، فكيف لو وكَّلَهم الله إلى عقولهم من أول إنسان إلى من تقوم عليه الساعة. ثم إنهم حال التفكر ما يفعلون وما يذرون في أكلهم وشربهم بما هو حرام أو حلال ونكاح محارمهم، والمحرمات عليهم وقصاصهم وقد كثر النزاع بين الموحدين مع رجوعهم إلى أصل واحد فكيف بمن تحير، أي كيف بمن لا يدخل تحت مظلة القرآن والحديث، فمكانة العقل عند الشيخ اطفيّش ارتبطت بالضوابط، ويقصد هنا استفتاء النفس والعقل المميِّز، ويورد حديث استفتاء النفس بمعنى استحضار العقل المميز بين الحق والباطل المستصحب في تمييزه الآيات والأحاديث.

4. الخلاصة في منهج الشيخ اطفيّش في الحديث ومساهماته:

كان الشيخ غير متسرّع في التصحيح والتضعيف، فأصّل لموضوع عرض الحديث على القرآن أو على صحيح السنة بالأدلة، مع التنبيه لخطورة هذا الموضوع، وأنه ليس معنى هذا رد كل حديث لا يوجد معناه في القرآن، ويؤكد منهجه أن المسلك ينصب على ما وقع فيه اختلاف، فقام الشيخ اطفيّش إذن بتثبيت حجية السنة الذي أكّده ضمن المذهب الإباضي. لقد كان الشيخ اطفيّش رائدا في إدخال كتب الحديث إلى وادي مزاب، وذلك من خلال استقراء وتتبع المكتبات القديمة بالمنطقة، إذ يرجع تاريخ أول مخطوط إلى وادي مزاب إلى سنة 735م وكان جزءا من تفسير صحيح البخاري موجود بمكتبة إروان بغرداية، وكان منهج الشيخ اطفيّش في كل ذلك الخروج من المذهبية الضيقة وتجاوز التقليد إلى النقد والتمحيص، كما يورد الباحث دادي بابا أنه رصد أزيد من تسعين مصطلحا حديثيا كان يوظفها الشيخ في مباحثه الحديثية. أثّر فيمن جاء بعده في تتبع آثار السنة النبوية وإن لم يقع اللقاء، مثل الشيخ إبراهيم بيوض الذي شرح كتاب فتح الباري لابن حجر بالجامع الكبير بالقرارة، والشيخ إبراهيم أدّاود رائد حركة السنّة بوادي مزاب الذي واصل مسيرة تحقيق الحديث المعتمد على الدليل الصحيح من أي مصدر حديثي معتبر، ذلك الذي يفتح الباب للباحثين لمزيد من الدراسة والبحث والمقارنة ومتابعة المسيرة التاريخية في تحقيق الحديث بوادي مزاب. إن ما يمكن أن نخلص إليه في المحصلة هو أن البحث بين أيدينا سيشكل لا محالة لبنة رمزية لها ما بعدها في التأسيس لممارسة نقدية من داخل مذهب أهل الحق والاستقامة رائدها وبلا منازع الشيخ اطفيّش رحمه الله، وذلك سعيا لتجاوز النزعة المدرسية التي تعيق تطوره نحو نهاياته المنطقية في أن يكون مساهمة ثرية داخل مفهوم الأمة الجامع.

الدكتور: محمد عبد النور

-بتصرف-

المصدر: موقع الملتقى

شاركنا بتعليقك