إسهامات

﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا سورة النحل: 18، هكذا خاطبنا المولى عز وجل في كلمات معدودات عبّرت عن واقع نعيشه في كل يوم وكل لحظة من لحظات حياتنا.

قد نألف النعمة فتصبح جزءاً بديهياً، وروتيناً يومياً في حياتنا؛ ولكن بقليل من التفكر ومراجعة النفس، نجد أنفسنا في غفلة حقيقية عن استشعار تلك النعم فضلاً عن شكرها؛ فالله عز وجل يغدق علينا بالخيرات، ويعمنا بالنعم، فهل نشكر الله عز وجل ونحمده حق الحمد؟ لا والله فمهما شكرنا وحمدنا فلن نُوَفيه سبحانه حق نعمة واحدة من عميم نعمه علينا؛ لذا فلا أقل من أن نضع لأنفسنا ميثاقاً نُلزِمها به لتؤدي الحد الأدنى من شكر نعم الله علينا.

الله ينعم على جميع مخلوقاته:

فبدايةً يجب أن ندرك تمام الإدراك أن الله عز وجل يرزق المؤمن والكافر، الطائع والعاصي، يرزق الله تعالى أولياءه وأعداءه؛ فقد ضمن الله سبحانه الرزق لجميع مخلوقاته، حتى النملة في جحرها والحوت في باطن البحر، وهذا من نعم الله تعالى على كل الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فاطر: 3. لكن للمؤمن مع ربّه حال مختلف؛ فلابد أن يعلم تمام العلم أن جميع ما يتمتع به من نعم الله عليه، سواء كانت صحة أو رزق واسع، أو ذرية أو علم أو أخلاق، أو حبّ الناس له أو جمال الخلقة إلى آخره، من نعم إن هي إلا محض فضل وكرم من الله جلّ وعلا، ليس له كشخص أي فضل في ذلك، فليس بمهارته أو ذكائه بلغ هذه النعم، إنما هو المنعم الرزاق أسبغ عليه من صنوف النعم الكثير ليبلُوَه أيشكر هذه النعم أم يجحدها؟ أيغتر بعلمه وذكائه وقوته أم يرجع الفضل لرب العالمين.

إذن التسليم بمحض فضل الله عز وجل يهيئ القلب ويجبره على استشعار النعم وتعظيمها في النفس ومعرفة قيمتها؛ فيشعر أنه لولا فضل الله عليه لما حباه بكل هذه النعم على تقصيره في جنب الله، فتتشبع نفسه بالامتنان لخالقه جلّ وعلا ويمتلئ قلبه بالحمد.

كيف نستشعر نعم الله علينا؟

ومن الأمور المهمة في قضية استشعار النعم وحمد الله عزّ وجلّ عليها أن يتخيل الإنسان نفسه بدون نعمة واحدة من تلك النعم الكثيرة. بالتأكيد ستكون الحياة أكثر صعوبة وأشق على النفس؛ ولينظر حوله في ملكوت الله، فسيرى كثيرين ممن ابتلوا في هذه الحياة بابتلاءات كثيرة؛ فهذا يشكو من مرض مزمن، وذاك يتألم من حرمان الذرية، وثالث لا يجد مأوى يكفيه الحر اللافح، والبرد القارس. ورابع لا يجد ما يَسُد به جوعه؛ وهكذا وبالنظر في أحوال الناس من حولنا ندرك أكثر فأكثر قيمة ما أنعم الله به علينا، وما أكرمنا به من أفضال، وعند المقارنة يتمنى غيرنا لو أن لديه مثلها.

وجدير بالتأمل أن في النعم ابتلاء أو اختبار وامتحان من الله عزّ وجلّ؛ يعطيها لنا ثم ينظر كيف نتعامل معها وماذا نصنع بها، ولعل من لوازم شكر النعمة ومن مقتضيات حفظها أن نستخدمها في كل ما يرضي الله تعالى، ولا نضعها في موضع سخطه أبداً، فنحرم منها بسوء صنيعنا فيها.

من أنواع النعم:

نعمة الإيمان: هي أولى النعم التي ينبغي أن نحمد الله تعالى عليها كثيرا، قال الله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ الحجرات: 17.

وإرسال الرسل لهداية البشر نعمة منه سبحانه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ المائدة: 20.

والأمن نعمة كبرى: قال الله تعالى مُبيّنا نعمته على أهل مكة: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ العنكبوت: 67.

والأخوة والتأليف بين القلوب نعمة عظمى ومهمة لتأسيس وقيام الدولة الإسلامية الأولى، ﴿..وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ آل عمران: 103.

واللسان نعمة ولا يجب أن نستخدمه فيما حرم الله من غيبة ونميمة وكذب وغيرها من آفات اللسان، بل نستخدمه في ذكر الله تعالى، أو في قول طيب نتقرب به إلى الله.

والمال نعمة يجب علينا أن نستخدمها فيما أحل الله من متع الحياة وطيّباتها ونخصص منه جزءًا ولو يسيرا نتصدق به على الفقراء؛ فنطهر مالنا ونساعد غيرنا وتحل البركة في هذا المال فما نقص مال من صدقة، وعلى جانب آخر لا يجب أن نستخدم أموالنا فيما حرم الله من مأكل ومشرب وملبس فننفق مما رزقنا الله تعالى مع الاقتصاد والتوازن والاعتدال، فلا نرمي ما يزيد عن حاجتنا من طعام أو شراب، بل نستخدم ما يكفينا فقط وما زاد عن حاجتنا يمكن أن نهديه إلى فقير أو نحفظه بشكل صحي لاستخدامه فيما بعد، لكن لا نرميه بحال، ولنتذكر كم من شخص جائع ومحروم لا يجد ما يسد به رمقه.

وهكذا نحفظ النعمة التي رزقنا الله إياها فتحفظنا، ونعوذ بالله تعالى من كفران النعم: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ البقرة: 212. وقال تعالى محذرا من تبديل النعم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ إبراهيم: 28، 29. وضرب الله تعالى لنا مثلاً واضحا ليحذر من كفران النعم: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ النحل: 112.

ولا شك أن الأجهزة الحديثة من جوالات وحاسبات آلية وغيرها هي نعمة كبيرة من الله عز وجل، سهلت علينا كثيراً في إنجاز أعمالنا واستذكار الدروس للطلاب، والتواصل مع الأهل والأصدقاء والتعلم والمعرفة، وتثقيف الذات وغيرها من الفوائد الكثيرة التي يصعب حصرها. وشكر هذه النعمة يكون باستخدامها فيما يرضي الله عز وجل من صلة رحم، ومطالعة مفيدة وفي كل ما ينفعنا ويضيف إلينا الجديد، ولا يجب بحال أن نسيء استخدام هذه النعمة، فتتحول إلى نقمة وأداة هدم؛ فلا نسرف في الجلوس إلى هذه الأجهزة الحديثة فنضيع واجبات كان يجب علينا أداؤها، ولا نسهو في جلستنا إليها، فنضيع صلواتنا وعباداتنا، ولا يجب بحال أن تستخدم في رؤية ما يغضب الله عز وجل من فيديوهات وصور وأفلام إباحية؛ فلا يليق بالمسلم أن يكون هذا سلوكه مع الله الذي أنعم عليه بكل هذه النعم الجمة.

وهكذا وقياساً على كل أمور حياتنا بمراقبة أنفسنا، واستشعار فضل الله علينا ونعمه العديدة وشكرها بالقلب قبل اللسان، واستخدامها فيما ينفع ويفيد، نكون قد أدينا جزءاً ولو يسيراً من حق الله علينا.

-بتصرف-

المصدر: موقع لها أون لاين

(1) تعليقا

17 جوان 2022

جزيتم خيرا وبارك الله فيكم جميعا

شاركنا بتعليقك