إسهامات

البناء على المرتفعات:

إن اختيارهم البناء على المرتفعات يستجيب لعدّة مطالب منها الابتعاد عن خطر الأودية، وعن خطر الغارات التي يمكن أن يفاجؤوا بها، ولكنهم يقصدون إلى شيء آخر ولعله الأهم وهو المحافظة على الأرض التي يمكن الزراعة فيها لأنها نادرة.

فلو أنهم بنوا فيها لاضطرتهم ندرة الأرض الصالحة للغراسة إلى الابتعاد عن قريتهم، وظروفهم لا تسمح بذلك، وهذه نقطة تلتقي فيها مع التخطيط المعاصر.

وهكذا إذن إذا ما خططوا قرية فإنهم يبنوها على الجبال طبعا لغرض الدفاع عن النفس أولا، ولكن هناك كثير من الاعتبارات جعلتهم يختارون السكن في المرتفع للأسباب الصحية وللمحافظة على الرقعة الضيقة من الأرض الصالحة للزراعة بقدر ما يفي بحاجتهم.

والمعماريون اليوم يشتكون، سيما في أوروبا، من البناء في الأرض الصالحة للزراعة مما جعل المناطق الزراعية تتقلص يوما بعد يوم في العالم حتى قالوا إن العالم صار مهددا بعدم الكفاية الغذائية.

مراعاة المحيط:

إن المحيط فيما نعتقد لا يقتصر على المحيط المادي فقط كما يسعى إليه المعماريون المعاصرون. لقد حرص الأوائل على تكوين محيط بشري فكانت المجموعات البشرية التي بدأت التخطيط والتعمير منسجمة فيما بينها وفي علاقتها، إما لأنهم من عشيرة واحدة أو من عشائر متآخية كأن تكون منتمية إلى جدٍّ واحد وإن تعددت الفروع.

ولقد أدرك علماء الاجتماع اليوم وكذلك المعماريون أن تجميع الناس في مناطق حضرية، وليس بينهم أية علاقة من قبل، هو من أكبر الأخطار التي تهدد الروابط الاجتماعية بين المتساكنين في حيٍّ ما. وقد شاهدنا ما تعاني المجموعات السكانية التي أحدثت في الجزائر بعد الاستقلال. فعدم وجود ترابط اجتماعي بين السكان في هذه التجمعات وعدم تعارف المتساكنين بها جعلها عرضة للإهمال والضياع.

استعمال المواد المحلية للبناء:

لقد كان الاعتماد على استعمال المواد المحلية المتوفرة والاكتفاء بها حتى أنَّنا لو تصوَّرنا أن انقطعت المواصلات فلم تعد المواد الحديثة الصنع مثل الحديد والإسمنت توجد في السوق، فإنّ النّاس سيستمرون في البناء لأنَّ الحجر والتَّمْشَمْتْ وهو الجبس المحلي، كلّها مواد موجودة، وكذلك الأخشاب التي كانت تُصنع منها الأبواب.

إن الاكتفاء الذاتي أمر يسعى إليه أغلب المهندسين وكذلك الموجهون الاقتصاديون لما لذلك من التأثير في اقتصاد الدولة وتحرره من ربقة التبعية الاقتصادية التي ستتبع حتما التبعية السياسية في عالم اليوم.

ومما نستطيع أن نضيفه إلى هذا المعنى صنع الأثاث ضمن البناء کالرفوف والكوى والدكاكين التي تصلح كأسرَّة للنوم وللصلاة. وأقل ما يقال في ترك الكوى الصالحة للاستعمال أنه اقتصاد كمية من مواد البناء التي قد لا تعد شيئا إذا كانت كلٌّ على انفراد، ولكنها إذا تعدَّدت أصبحت تشكل قسما مهما من هذه المواد.

هذا وأنَّ بناء الجدران بالتِّمْشَمْتْ مع الحجارة الصغيرة يجعل الدار مناسبة للمناخ القاري الشديد الحرارة صيفا والشديد البرد شتاء. وقد أظهرت التجربة صلاح هذه المادة للمحافظة على طقس معتدل داخل البيوت، فالدور القديمة اليوم سيما المبنية منها بهذا الجبس المحلي أو الجير والحجر هي أحسن بكثير من الدور التي بنيت بالإسمنت سواء كان ذلك في الصيف أو في الشتاء.

ويقولون إن الجبس المحلي قد تأكدنا منه، فقد جرب لمئات السنين، ولكن الإسمنت لم تستقر بعد تجربته، فنحن إذا بنينا به في مغامرة لا تعرف على وجه التحقيق دوامها واستمرارها.

وإلى جانب هذه النقط التي يتلاقى فيها معمارنا بالتخطيط المعاصر، هناك ملاحظات داخل الدور منها:

  •  الإقلال من الأبواب الخشبية وتصغيرها، وذلك لندرة الخشب سيما اعتمادهم على التمر كمادة أساسية لمعاشهم، واقتلاع نخلة أو نخلتين للانتفاع بجريدها وكربها وأخشابها يحرمهم من قسم مهم من المادة الغذائية.
  • تصغير مداخل البيوت يحفظ عليها المناخ المناسب صيفا وشتاء، وفيه اقتصاد للمادة كما سبق.
  • استعمال مادة التِّمْشَمْتْ في بناء الرفوف ودكان الصلاة وسرير بيت النوم ودكان المنسج وكذا رفوف المنسج، وكل هذا اكتفاء بالموجود عن النادر أو المفقود.
  • لا حاجة لجلب خزائن الخشب أو أسرتها أو ما يحتاجون من الأثاث كما أن استبدال الموائد بالمثارد (إناء قائم على ساق)، فيه تعويض ماعون باثنين.
  • الاكتفاء باستعمال أقل ما يمكن من الأبواب، فهم يقتصرون على القدر الضروري کالباب الخارجي، وباب الحجرة وهو مخزن الذخيرة والمؤونة، وباب لبيت النوم وباب للسطح الأعلى، فلا توجد الأبواب في المستراحات ولا في تِزَفْرِي (مكان في الطابق الأرضي تجتمع فيه العائلة)، ولا في المطبخ ولا في المغتسل.
  • تقصير السقوف كما سبق.
  • جعل الدور منفتحة في وسطها كما ذكرنا.
  • ترك الكواة فوق السارية وبين الأقواس. إنها تدل على مقدار تمكُّن الأجداد في فن الهندسة، فهم يعلمون أنها لا تحمل شيئا ولذلك تركوها فارغة لنصيب من الشمس واقتصاد مواد البناء، ووضع الآلات المضرة للصبيان کالموس والمقص والكبريت.

-بتصرف-

المصدر: كتاب الشيخ القرادي، آثاره الفكرية ص133 -138.

شاركنا بتعليقك