إسهامات

" لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء الذي دونت أصوله ووضعت قواعده مند أرسطو، وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده، وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئا دون مقياس يستمد معاييره من الوسط الاجتماعي، وما يشتمل من إمكانيات. وليس من الصعب على الفرد المسلم أن يصوغ مقياسا نظريا يستخرج به نتائج من مقدمات محددة، غير أنه من النادر جدا أن يعرف المنطق العملي، أي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة.

ونظرة إلى ما حولنا تكفينا لكي نلاحظ أن ضروب نشاطنا غالبا ما تتسم بالشلل و انعدام الفاعلية في الجانب الخاص أو العام.

ففي مدخل أحد مكاتب البريد رأيت مثلا منظرا عجبا، رأيت رجلا يحمل مظاريف كثيرة يحاول أن يرتبها، وبديهي أن نحس بحاجته إلى عتبة أو حافة شباك ليتمكن من أداء عمليته على ما يرام،  لقد بحث الرجل فعلا عن عتبة، وظننت أنه واضع عليها بريده، وضعا يجعله يتخذ منها نضدا صغيرا أمامه، وشد ما كان عجبي حين وجدته بدلا من أن يضع عليها بريده، يقف عليها بقدميه ثم ينحني واضعا الخطابات أوطأ من نعليه، في وضع يجعل عمله أشق وأكثر إجهادا.

.. ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق لأن العقل المجرد متوافر في بلادنا، غبر أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه شيء يكاد يكون معدوما.

قد يكون للمسلم نصيب من العلم أو حظ من المال فكيف ينفق ماله و يستغل علمه؟

وإذا أراد أن يتعلم علما أو حرفة: فكيف يستخدم إمكانات في سبيل الوصول إلى ذلك العلم أو تلك الحرفة؟

إننا نرى في حياتنا اليومية جانبا كبيرا من اللافعالية في أعمالنا، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي المحاولات الهازلة

وإذا ما أردنا حصرا لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين الأشياء و وسائلها، وبين الأشياء و أهدافها، فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا، وفكرتنا لا تعرف التحقيق، و إن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله و في كل خطوة نخطوها.

ولقد يقال إن المجتمع الإسلامي يعيش طبقا لمبادئ القرآن ومع ذلك من الأصوب أن نقول: إنه يتكلم تبعا لمبادئ القرآن. لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي ونظرة إلى واقعنا لنرى الرجل الأوربي والرجل المسلم: أيهما ذو نشاط و عزم وحركة دائبة؟ نجد بكل أسف ليس هو الرجل المسلم ، وهو الذي يأمره القرآن بقوله تعالى "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ" (19) لقمان وقوله : "وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحًا" (37) لقمان

ألم نقل إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل و نشاط.

ومن هنا يأتي عمقنا الاجتماعي، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي، ولننظر إلى الأم التي تريد أن تربي ولدها، فهي إما أن تبلده بمعاملة أم متوحشة، وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه، فإذا أبدت إشارة أو أصدرت أمرا شعر الطفل بتفاهة إرادتها فلم يعبأ بها، إذ أن الوهن والسخف يطبعان منطقها حتى في عين الصبي المسكين.

المرجع:

كتاب مشكلة الثقافة لمالك بن نبي ترجمة عبد الصبور شاهين ص 85-88. دار الفكر بيروت لبنان.

شاركنا بتعليقك