إسهامات

"... إنه يجد في مزاب وجها لحضارة جديدة، إنه هذا الوجه الذي أهمني بصفة خاصة ولابد من العودة دونما شك في التاريخ الجزائري إلى الوراء.. إلى آخر عهد الدولة الرستمية لنجد الجذور لهذه الحضارة الموجودة هنا بعد انقراض الدولة الرستمية على يد الفاطميين في (تاهرت).

إن أصول هذه الحضارة إنما حملتها أمواج الأحداث إلى هذه المنطقة حملتها العواصف التاريخية الهوجاء بذرة واحدة وزرعتها حيث تنمو اليوم مدينة (العطف) التي هي جدة مزاب ومنذ ذلك الحين فإن البذرة تضاعفت وتكاثرت، واليوم فإن مزاب يتكون من: العطف، بنورة، مليكة، غرداية، بني يزقن، وأنا لا أورد هذه القرى حسب أولوية نشأتها التاريخية حتى لا أخطئ، غير أني أحدد بأن المدينتين (بريان) و(القرارة) اللتين يعود عمرهما إلى ثلاثة قرون هما آخر حلقة في شجرة هذا النسب.

إن هذه القرى تكوِّن مجتمعا متماسكا، وهذا التكون لا يعود إلى الخصائص الدينية فحسب، وإنما يعود إلى الإجماع الذي يُقعِّد كل علاقات الأفراد مع المجموعة والعكس، ومن ثم فإن المزابيين يكوِّنون مجتمعا روحيا بأتم معنى الكلمة أنهم (مورمون) الجزائر.

إن القاعدة الأخلاقية هنا تتطلب من كل واحد احترام المجموع، هذه القاعدة التي تُجبِر كل فرد على احترام المجتمع، وتفرض عليه السلوك السوي، هذه القاعدة الإجبارية تذهب إلى حد البراءة والنفي للأفراد في بعض الحالات التي تستدعي ذلك، ففي حالة إعلان البراءة من الشخص يصبح غير مستطيع الاندماج في المجتمع من جديد إلا بعد أن يعلن التوبة من ذنبه صراحة أمام الملأ في المسجد، إنه ما نسميه اليوم (النقد الذاتي) وإننا نلمس آثار المحافظة على هذه القاعدة الهامة في المجتمع هنا إذ أننا لا نرى في (مزاب) أية علامة للانحراف أو التشرد كما نراها في غير مزاب.

لم أر شخصا واحدا أُخِذَ بجريرة السُّكر في أزقة (غرداية) – على سبيل المثال – هذه المدينة الأكثر تفتحا باعتبارها تستقبل مختلف الأجناس ولم أر أية علامة للانحطاط الأخلاقي الاجتماعي، كأن يكون المرء في رحمة السؤال وطلب الصدقة، أني لم أر متسوِّلا واحدا طيلة إقامتي، وبتعبير آخر نقول: إن الوسط المزابي يحقق بقوة الشروط النفسية والاجتماعية لبناء حضارة مصغرة  (micro-civilisation)، إن الموضوع يستحق دراسة اجتماعية مفصلة غنية بالمعلومات، إن أبناء مزاب الذين يزاولون بكثرة اليوم التعليم العالي ينبغي عليهم أن يخصصوا بعض الأطروحات الأكاديمية لهذا الموضوع.

إن الذي أريد تسجيله هنا هو تعجبي من سؤال أحد المتعاونين –الذين تفضلوا باستضافتي إلى ناديهم بغرداية – حينما وجه إلي السؤال التالي:

"هل تعتقدون أن الموانع الدينية الموجودة هنا تسمح بتطور المجتمع؟"، يبدو لي أن هذا السؤال يحرق مراحل تاريخية هامة. فإنه قبل أن يفكر أي مجتمع في تبني أشكال حضارية جديدة للتطور عليه أن يفكر أولا في المحافظة على جوهره وماهيته، ويحافظ على وجوده، هذا الذي له الأولوية، فإذا حدث له انقلاب أو طفرة، فإن التطور عندئذ يصبح بالنسبة إليه أشبه ما يكون بممر خطير فوق هوة سحيقة دون حواجز فإنه بعثرة قدم واحدة يتدحرج ساقطا في الهوة، وهو السقوط في هُوَّة التسول والسكر، والعهر والتشرُّد.

وعندما أسأل هل الموانع الدينية تسمح للمجتمع بالتطور، فإن هذا السؤال يكون عندئذ كمن يقول لماذا لا يحطم المجتمع الحواجز لينتحر، إنني أعلم بالطبع أن السائل قد لا يقصد هذا ولكني أنا ترجمته واستشففته من خلال نظرتي إلى التاريخ والحضارة، وهي ليست نظرة السائل طبعا.

ومهما يكن من أمر، فإن المجتمع المزابي قد حافظ بحكمة وتبصُّر على الحواجز حتى يستطيع المرور من العصر الوسيط إلى العصر الحديث في أمن.

والواقع إنه توجد في هذا الجزء من الجزائر إمكانات للتطور غير مقدرة وغير معروفة في باقي نواحي القطر.

إنهم قلة قليلة أولئك الذين يعرفون أن أول مدرسة عصرية أنشأت بمدينة (تبسة) منذ ما يقرب من نصف قرن، وأقل من القليل من يعرف أن هذه المدرسة إنما أنشأها الشيخ عباس بن حمانة بمعونة تاجرَيْن من مزاب، إننا نرى هنا الوطنية الفتية والتقاليد الأصيلة (سموها إن شئتم موانع دينية) تلعب دورا مهما في الحفاظ على الشخصية الجزائرية في وقت كانت فيه مهددة تهديدا شديدا، إن بداية هذا التطور الثقافي تعود إلى أواخر القرن الماضي.

زرت في بني يزقن المكتبة التي تحتوي على التراث القيم الذي تركه الشيخ اطفيش، هذا العلامة الشهير الذي جاوزت شهرته حدود مزاب، بل وحدود القطر الجزائري، وأنا لا أتحدث هنا عن شهرته ونفوذه في المجتمعات الإباضية الأخرى من عمان إلى جبل نفوسة باعتباره عالما مسلما لا أكثر ولا أقل، تفاعل مع الأحداث الكبرى التي كانت تشغل العالم الإسلامي في بداية القرن العشرين عندما كان العالم الإسلامي يواجه أخطر اللحظات التي مر بها في تاريخه.

...

.. ففي (العطف) حين تضررت الطريق المؤدية إلى غرداية بفعل فيضانات السيل، فإن الشبيبة قامت على الفور بإصلاح ما فسد، وفي (القرارة) حين تقرر بناء مسجد جديد قام الشباب على الفور بالعمل التطوعي، إن التطوع هنا من أهم قواعد العمل الاجتماعي.

في "القرارة" قدموا لي ونحن في الواحة تحت النخيل إمام المسجد الذي عاد ولا شك لتوه من فلاحة نخله، كان يلبس لباس الفلاحين بقامة معتدلة متمنطق بحزام غليظ ذي مسامير نحاسية، ويداه القويتان مخددتان من كثرة العمل.

وفي “العطف” قمت بزيارة المسجد بين المغرب والعشاء فكان أن سلمت على المؤذن الذي استقبلني في هيأة العزابة (الرداء) كما كان متوقعا، ولكني دهشت حين التقيت به صباح غد بلباس الفلاحين في إحدى أزقة العطف وهو عائد من حقله. من هنا عرفت أن العمل هو القاعدة التي تحكم هذا المجتمع.

وهنا لابد أن أسجل هذه الملاحظة الهامة، على الجزائري الذي يزور (مزاب) أن لا يذهب إليه بهدف التصوير وأخذ المناظر الفتوغرافية كما يفعل السياح بحثا عن المناظر التقليدية ذات الألوان المحلية، وإنما ينبغي الذهاب إلى هناك بضمير الباحث الذي يرغب في تمزيق الأغلفة، فإنه بعد تمزيقها يجد في مزاب شيئا جديدا، هذا الجديد الذي هو مِلْكٌنَا جميعا.

بقلم المفكر الجزائري مالك بن نبي.

تعريب الدكتور محمد ناصر.

المصدر: موقع آت مزاب

شاركنا بتعليقك