إسهامات

من الصعب علينا أن نكون عقلية إسلامية معاصرة من غير توضيح بعض الأسس والمفاهيم التي تجعل موقفنا العقلي من الماضي بكل دروسه ومعطياته ورموزه، ومن المستقبل بكل آفاقه وتحدياته ومطالبه، موقفا يتسم بالوضوح والشفافية والمنطقية.

ومما هو ملموس الآن أن لدى كثيرين منا نوعا من الارتباك تجاه العثور على صيغة توازنية بين الماضي والمستقبل، حيث تجد شريحة غير قليلة من المسلمين غارقة في الماضي أخذ للدروس والعبر، واعتزازا بالأمجاد والبطولات، وانهماكه في التأويل والتفسير والدفاع والرد... وفي المقابل فإن كثيرا من المثقفين غسلوا أيديهم من كل شيء اسمه تراث أو حضارة إسلامية أو تاريخ الأمة كبيرة، وصاروا يتعاملون مع من يثقفونهم على أنهم أشخاص لا جذور لهم، يقومون بترويضهم على الاتجاه نحو المستقبل عاطلين عن أي خلفيات إسلامية أو تاريخية، فحسبهم أن يتسلحوا برؤى الغرب في اكتشاف المستقبل وفي نوعية التهيؤ له! وكانت نتيجة ذلك بلبلة فكرية عريضة تجتاح الكثير من الشباب الذين يشعرون بضرورة تجسير العلاقة بين الماضي والمستقبل؛ لكنهم لا يهتدون إلى تحقيق ذلك. ولعلي أقدم هنا بعض المقاربات الفكرية والثقافية التي قد تساعد في العثور على الصيغة التواصلية التي نتلمسها:

1. نحن أمة كبيرة ذات تاريخ مستطيل في الزمان ومستعرض في المكان، وتشكيل رؤية إحاطية بذلك التاريخ أقرب إلى المستحيل منه إلى الممكن، ولذا فإن علينا ونحن نستعرض الماضي، ونحاول سبر أغواره ألا نطمع في الحصول على أكثر من رؤى وملاحظات اجتهادية، وعلينا ونحن نستلهم التاريخ أن نسأل أنفسنا: لماذا نعود إلى الماضي، وما الذي نريده من ذلك، وهل هناك جدوى فعلا من محاولات استخلاص بعض الدروس والعظات من وقائعه وأحداثه. وإذا توصلنا إلى ذلك فهل تلك الدروس والعظات تملك من الفاعلية والحيوية ما يساعدنا فعلا على تحسين رؤانا للمستقبل وللتخطيط والاستعداد له؟

هذه التساؤلات تحدد لنا طريقة النظر إلى الماضي وطريقة التعامل معه والاستفادة منه.

2. نحن إذ نتحدث عن الماضي لا نقصد بالطبع نصوص الوحي؛ لأنها فوق الزمان ووظيفتها الإرشادية والتعليمية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وإنما نتحدث عن أشكال تفاعل أمة مع تلك النصوص في إطار من فهمها وظروفها وتطلعاتها وخلفياتها الثقافية والتاريخية.

وقد كان ذلك التفاعل مولدا للكثير الكثير من الأفكار والمفاهيم والرؤى والأحداث والمواقف والإنجازات والتحديات والمشكلات... وهذه الأمور هي التاريخ وهي الماضي، وهي ما نرجع إليه ونحاول قراءته واستيعابه، وقد أسهم كل ذلك في تكوين العقلية الإسلامية في الماضي، كما أسهم في تكوين المرجعية الرمزية للأجيال اللاحقة على مستوى المحلات العقلية والمشاعر الوجدانية، وعلى مستوى السلوكات والأنشطة العملية. وما زلنا نحكم على الكثير من إنجازاتنا وعلاقاتنا من أفق تلك المرجعية. وعلى هذا فنحن باعتبار ما جزء من الماضي، وإذا ما أردنا فهم جذور كثير من أحوالنا الحاضرة فعلينا أن نعمق رؤيتنا لما جرى في تاريخنا من أحداث، ولما ساد فيه من أوضاع وأحوال، كما أننا في حاجة إلى فهم التاريخ من أجل الاهتداء إلى مفاتيح الشخصية الإسلامية ومكامن القوة والضعف في الأمة ومعرفة المداخل الصحيحة لحفز أبناء الأمة وتحريكهم ودفعهم في سبل العزة والصلاح والتقدم.

المشكلة التي تعترض سبيلنا في محاولة الفهم هذه أننا -كما هو شأن كل البشر- لن نستطيع فهم الماضي بعقول صافية أو من خلال ثقافة نقية، وإنما من أفق الحاضر، وضمن آليات الفهم الحديثة، أي أننا لن نستطيع على نحو جيد رؤية السلف بعيون سلفية بسبب الأغشية الثقافية الحاضرة والتي لا يمكن أن ننظر إلا من ورائها. هذا يعني أن تفسيرنا للماضي وحكمنا عليه واستخلاصنا للدروس والعبر منه، هو باعتبار ما وعلى مستوى ما متحيز للحاضر، ومتحيز لفلسفة الغرب واتجاهاته بوصفه المهيمن على الثقافة المعاصرة والموجه لها.

المصدر: كتاب جدد عقلك، د. عبد الكريم بكار، صفحة 91-93.

شاركنا بتعليقك