إسهامات

أقدم مدن مزاب الحالية هي "تاجنينت"، ويرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 402ه-1012م، ثم بعدها "آت مليشت"، ثم "تغردايت"، ثم "آت يزجن" ثم "آت بنور". وهذه المدن متقاربة النشأة، وبعدها بزمن طويل آت ايقرارن وآت ايبرقان، والأولى تبعد عن غرداية ب 100 كم، والأخيرة ب 48 کم ويرجع عمران هاتين المدينتين إلى القرن الحادي عشر الهجري، فالقرارة عمرت في سنة 1040 ه وبريان في سنة 1060 ه حسب ما أفادني به الشيخ أبو اليقظان.

ونشأة هاتين المدينتين كان توسعا ضروريا لجئ إليه سكان مزاب بعد أن امتد العمران وكثر عدد السكان فضاق بهم الوادي، وقد حاولت القبيلتان اللتان أُخرجتا من غرداية أو خَرجتا، في ملابسات من الفتن والمنازعات، الاستقرار بالأغواط مدة من الزمن قصيرة ثم نزحوا إلى موضع القرارة، وكان إذ ذاك مرعى ومنتجعا لأهالي تيقرت من أولاد جلاب، والبعض منهم استقر في منتجع بریان.

والمدن الخمس الأولى متقاربة الموقع والنشأة، فالعطف لا تبعد عن غرداية إلا بـ 7 كم، وبمرور الزمن واستمرار النمو ستصبح هذه المدن أو القرى مدينة واحدة، فيما بعد.

والملاحظ أن هذه المدن كلها أنشئت فوق الجبال، والمسجد يجعل مقره في القمة، ثم تبنى وتنشأ البيوت من حوله، وتسور القرية أخيرا بسور يحفظها من الطوارئ والغارات.

والقرى أو المداشر التي أشرت فيما مر إلى وجودها، قبل المدن الحالية كانت أنشئت في سفح الجبال، أو على تل قليل الارتفاع، وما يعلل هذا؛ هو أن هذه المداشر لم تنشأ -حسب ما يبدو- في أول أمرها على قصد الاستقرار، إنما كان يبني شخص کوخا أو بيتا، ثم یأتي زميله أو رفيقه فيبني آخر بجانبه، ليستأنس به، حتى تتجمع عدة بيوت تكوِّن قرية، أو أن هذه المداشر أنشئت أول ما أنشئت على أساس الاستقرار، واختار أهلها السهل، فمالوا إلى سفح الجبل، ثم سرعان ما تعرضت للغارات والنهب، لكونها في متناول من يقصدها واستفادوا من تجربتهم هذه، فأنشأوا وجددوا قراهم فوق الجبال لتكون أمنع، فالقرية الأولى "تمزرت"، والقرية التي كانت أسفل مليكة، في موضع أفران الجير، وقريتا "ترشين"، و أكنونای. هذه المداشر كلها لم تكن على جبل.

والقرى الحالية لم تكن على العمران والاتساع المشاهد عليها الآن، فغرداية مثلا جددت الأسوار فيها، والأسواق ثلاث مرات، وكذلك القرارة مع كونها حديثة العهد وبني يزقن کان سورها في منتصف الجبل الذي بنيت عليه، ثم امتدت إلى ما عليه سورها الآن، وكذلك مليكة، كانت محصورة في الناحية الشرقية الجنوبية، ثم امتدت إلى أعلى ناحية الشمال.

وكلما تتسع القرية إما بتزايد السكان، وهو الغالب، أو بانضمام بعض المهاجرين إلى مزاب من النواحي الأخرى، يضطر أهلها إلى الزيادة في مرافقها العامة، أو تجديدها، فالأسواق كانت تغيّر أماكنها، أما المسجد فكانوا يضيفون إليه بيوتا أخرى ودیارا تُشترى من أصحابها، فلم يبق مسجد من مساجد هذه القرى لم تضم إليه إضافات مرتين أو ثلاث، ولا يسمحون بإنشاء مسجد آخر لناحية من القرية، محافظة على جمع الكلمة، وحذرا من الفرقة، ولم تشذ عن القاعدة إلا العطف، أما المسجد الذي بجانب مليكة، في الناحية الشمالية الشرقية، فهو بقية من قرية كانت هناك، ولا تزال خرائبها ماثلة، هدمت الديار وصب عليها جام غضب الخصوم، وترك المسجد احتراما له، وهذا ما أميل إليه، كما أشار إلى ذلك بعض أفاضل القرية.

-بتصرف-

المصدر: كتاب مزاب بلد كفاح. إبراهيم محمد طلاي. ص19-22.

شاركنا بتعليقك