إسهامات

صلاة الجماعة قُربة، يسعى المسلم إليها، وينشد ثواب الآخرة وحده عليها، سواء في ذلك صلَّى هو بالناس، أم صلَّى به أحد الناس، فإمامة المسجد ليست وظيفة، يربط لها أجر ما قل أو كثر.

إلا أنه لوحظ أن مصالح الأمة الدينية والدنيوية تقضي أن يخلص لها نفر معينون، يقومون عليها، ويتفرغون لها، فالحكم، التعليم، الإدارة، القضاء، وضروب من العبادات العامة يجب أن يتخصص لها أناس ذوو كفاية ودُرْية.

وأن تكفل لهم أرزاقا تغنيهم عن الكسب من مهن أخرى، وتلك هي طبيعة الأشياء كما أقرتها المجتمعات القائمة بالنظام الديني، أو القائمة بغيره، من شتى النُظم.

وقد رئي أن مكانة المسجد في الإسلام لها خطر كبير، وأن ترك الإشراف عليها للصدف العارضة لا يليق، كيف؟ والمسجد ساحة يلتقي المسلمون فيها ليلا ونهارا، يستمتعون لآي القرآن في الصلوات المكتوبة، وللعظات الموجهة في خطب الجمع والأعياد، ولدروس التربية التي لابد منها، لربط المسلمين بدينهم، وتنشئتهم على آدابه وتعاليمه.

إنه لضمان نتائج حسنة من هذه الأعمال لابد من انتخاب رجال يحسنون القيام عليها، فالمدارس والمساجد سواء في هذه الحاجة.

المجتمع الإسلامي فقير أشد الفقر إلى هذا اللون من الرجال، وقد تولى قيادته الروحية في عصور كثيرة شيوخ الطرق الصوفية، فأحسن منهم من أحسن، وأساء منهم من أساء، ولو أن أئمة المساجد انبثوا في نواحيه، واستحوذوا على ناشئته وشبابه، يوجهونهم إلى الخير، ويحببون لهم الله، لأدوا رسالة المساجد على خير وجه.

نعم إن الإسلام لا يعرف طبقة الكهان، ليس في أمته الكبيرة من وقَّف عليهم لقب رجال الدين، بيد أن في الإسلام من يسمون أهل الذكر، ومن يلقبون بأولي الأمر ولهؤلاء وأولئك حق الصدارة والتوجيه، وواجب على العامة أن يهرعوا اليهم فيما ينوبهم من عقد ومسائل.

قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمُ أَمْرٌ مِّنَ الاَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الاَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ.. النساء: 83.

فلا يسوغ للجماهير الغافلة، أن تتبع مشاعرها الساذجة، أو تقف عند معارفها الضيقة، فيما يعرو المجتمع العام من حرب وسلام، وقلق وأمان، بل ينبغي أن ترتقب توجيه القادة من ذوى الفكر الحصيف والبصر النافذ.

وهكذا رسم الإسلام طريق الصواب للقاصرين فشفاء العي السؤال: ﴿ .. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ النحل: 43.

ومن هنا يجب أن يحوز أئمة المساجد أنصبة ضخمة، من فقه الدنيا والدين، وأن تكون لهم دراسات شاملة لعلل الجماعة وأدويتها، وإلمام واسع بمذاهب السياسة والاقتصاد، وآراء المربين وعلماء النفس من مسلمين وأجانب.

ويؤسفنا أن هذا المرموق من أهل القرآن لا وجود له -إلا ندرة- وأن المساجد ووزارة الأوقاف لا ينهضان بهذا العمل الكريم.

وتوجد صور باهته لوظيفة الإمام في مئات المساجد، تشبه -مع التجوز- الأطلال المتخلفة عن الدور والقصور، لا تسمع فيها حديث الحياة، وإنما تسمع فيها نعيب البوم.

والأذان للصلوات الخمس، وتطهير المساجد - وخاصة بعدما ألحقت بها مرافق للوضوء - أصبحا من الوظائف ذات الأجور المحدودة، وقد رصدت أوقاف كبيرة للإنفاق على هذه الوجوه المحدثة.

والأذان عبادة محضة، لا يبذل لها راتب، وكذلك تهيئة المساجد لاستقبال المصلين وإبقاؤها نظيفة مستحبة، ولعل الاعتبارات التي جعلت الإمامة وظيفة، نضحت على غيرها من وظائف المسجد، ذلك إلى جانب أن أغلب المشتغلين بهذه الأعمال فقراء، يستحقون العون المجرد.

والحق أن المسجد مرفق عام، يمكن في استغلاله على نطاق واسع، لرفع مستوى الجماهير، ماديا وأدبيا، ويمكن أن تنوط به مهام اجتماعية منوعة.

ولولا أن الاصلاحات الحديثة تكره أن يكون عليها طابع الدين، لكان الدين دعامة كل نهضة بالبلاد إلى الأمام، ولكانت وظائفه من السمو بحيث لا ينتقي لها إلا أصحاب السبق والكرامة والامتياز.

-بتصرف-

المصدر: كتاب ليس من الإسلام، محمد الغزالي، صفحة 185-187.

شاركنا بتعليقك